على عكس الشعر الجزائري الفصيح منه والشعبي، لم تحظ القضية الفلسطينية بالاهتمام الذي تستحقه في الأدب الجزائري، أو على الأقل الاهتمام الذي يفترض أن يترجم العلاقة الروحية الفريدة بين المجتمعين الجزائري والفلسطيني، ولعل أكثر ضروب الأدب الجزائري تجاهلا للقضية الفلسطينية هي الرواية التي لم تكن فلسطين يوما هاجسا من هواجسها، مع استثناءات قليلة لا تنفي هذه الحقيقة.
لا يمكن بالطبع تبرير هذه الظاهرة بحداثة عمر الرواية الجزائرية المكتوبة بالعربية، ولا حتى بانعدام أو قلة انشغال المثقف الجزائري بالقضية الفلسطينية لأنه افتراض مستحيل، بل إن هذا التجاهل يستحيل تبريره بشكل خاص في مرحلتين مهمتين من مراحل تطور الرواية الجزائرية، الأولى مرحلة التأسيس والأدلجة، وهي المرحلة التي ميزتها الرواية الملتزمة والأيديولوجيةكروايات الطاهر وطار ورشيد بوجدرة ولاحقا الأعمال الأولى لواسيني الأعرج وجيلالي خلاص ومحمد مفلاح وغيرهم. أما المرحلة الثانية فهي الراهنة التي أطلت فيها الرواية الجزائرية على عوالم سردية أرحب على المستويين العربي والغربي.
لم تتح الرواية الجزائرية الملتزمة والمؤدلجة أيّ فرصة للقضية الفلسطينية لتكون أحد هواجسها، على الرغم من أنها شكلت هاجسا سياسيا واجتماعيا وتاريخيا لجميع الجزائريين لعقود طويلة ومستمرة لحدّ اليوم، وقد نجد أسبابا لا تصمد طويلا في تبرير ذلك، سيما المتعلقة بالراهن الجزائري حينذاك المكتفي من جهة بثورته التحريرية والراغب من جهة أخرى في التخلص من الآثار النفسية والتاريخية لحقبة الاستعمار التي تجاوزت القرن بثلاثين سنة، وهو ما جعل رواية تلك الفترة غير قادرة على النظر خارج البيت الجزائري، ليجد روائيو المنتصف الأول من ثمانينات القرن الماضي أنفسهم مشغولين بالكتابة عن راهن جديد أكثر انغلاقا من سابقه وموشك على حالة من الفوضى التي ترجمتها سنوات التسعينات.
لم تتح الرواية الجزائرية الملتزمة والمؤدلجة أيّ فرصة للقضية الفلسطينية لتكون أحد هواجسها، على الرغم من أنها شكلت هاجسا سياسيا واجتماعيا وتاريخيا لجميع الجزائريين لعقود طويلة ومستمرة لحدّ اليوم
رواية المرحلة الراهنة لم تهتم بدورها بالقضية الفلسطينية التي بقيت مجرد مشاعر تختلج في صدور الجزائريين ومنهم الروائيون، حتى انفتاح هؤلاء على التاريخ جاء في عمومه موجها إما من قبل القراء وبالتعدّي دور النشر، وإما من قبل منصات الجوائز الكبرى التي أصبحت تقرّر لأسباب أو أخرى، طبيعة ومواضيع الروايات الرائجة.
لا يمكن تبرير تجاهل الرواية الجزائرية للقضية الفلسطينية بما سبق، فكل تلك الأسباب على الرغم من أهميتها لم تؤثر في النتاج الفني والأدبي الآخر من رسم ونحت ومسرح وشعر، فلطالما حضرت فلسطين ومأساتها في جميع ضروب الأدب والفن الجزائري، باستمرار ودونما مناسبة، بل تجسّد هاجسا حقيقيا في الشعر الجزائري الشعبي والفصيح، لا تكاد تخلو مجموعة شعرية صادرة منه.
القراءة المتمعّنة في المتن السردي الجزائري، المكتوب بالعربية والفرنسية والأمازيغية، يجعلنا نقف عند ملاحظة مهمة قد تبرر مثل هذا التجاهل. ملاحظة لا علاقة لها بعدالة القضية الفلسطينية، ولا بصدق حضور فلسطين في الوجدان الجزائري، بل بالشرخ الموجود بين الواقع والرواية الجزائرية سيما المكتوبة بالعربية، والذي ازداد بنحو مخيف في العشرية السابقة مع ظهور أصناف جديدة من الرواية، تتميز بالصنعة والاحترافية في كتابتها وبالتنافسية الكبيرة أيضا، لكنها في الوقت ذاته أفلتت حبل المحلية بما تشمله من هواجس وإرهاصات تمنحها خصوصيتها وطابعها المستقل والمختلف. واقع كانت فيه القضية الفلسطينية أكبر ضحاياه، لارتباطها الروحي غير المشروط بوجدان جزائري لم يشغل بال روائيين يفترض أنهم يستمدّون مواضيعهم منه.
لحسن الحظ لا يشكل هذا التجاهل للقضية الفلسطينية في متن السرد الجزائري ظاهرة مطلقة، فبعيدا عن المسرح المكتوب الذي تناولها بنحو متميّز واستثنائي ظهرت ذروته في مسرحية "فلسطين المغدورة" لكاتب ياسين والتي عرضت مئات المرات بالدارجة الجزائرية وأيضا بالفرنسية، فقد خصص الروائي رشيد بوجدرة لها كتابا جدليا عام 1971 صدر سنة بعد ذلك بعنوان "يوميات فلسطينية"، ومثلما جعلنا هذا الكتاب نعيد قراءة رشيد بوجدرة الثوري والإنسان، فإنه شكل منعرجا مهما في مسيرة هذا الكاتب الإبداعية، لم يظهر أثرها إلا مع منتصف التسعينات من القرن الماضي، حين تنكّرت له دور النشر الفرنسية على الرغم من أهميته، بسبب إصراره على موقفه المعتبر فلسطين أرض محتلة، مع رفضه تلفظ اسم الكيان الذي يحتلها.
لم يكن "يوميات فلسطينية" رواية بل سردا لرحلة قادت بوجدرة إلى الأراضي الفلسطينية بمساعدة صديقه جورج حبش، وهي المناسبة التي جعلته يزور العديد من الأقطار العربية التي تأوي فلسطينيين، قضى معهم أكثر من سنتين ونصف السنة بين المخيمات وقواعد الفدائيين المتقدمة في لبنان وسوريا والأردن والعراق ومصر، ليعرض لنا في كتابه هذا وجهة نظره بخصوص التأثير السياسي والاجتماعي والنفسي للاحتلال الإسرائيلي ليس على الفلسطينيين فقط، بل أيضا على الشعوب العربية برمتها.
شكل كتاب "يوميات فلسطينية" هاجسا فنيا لازم بوجدرة في جميع أعماله الروائية كلما تناول فكرة "الإنسان المضطهد"، بحيث أصبح يوظف ما وقف عليه في رحلته المشرقية من مشاعر غير متجانسة لدى العربي في نحته لشخصياته المقهورة
شكل كتاب "يوميات فلسطينية" هاجسا فنيا لازم بوجدرة في جميع أعماله الروائية كلما تناول فكرة "الإنسان المضطهد"، بحيث أصبح يوظف ما وقف عليه في رحلته المشرقية من مشاعر غير متجانسة لدى العربي في نحته لشخصياته المقهورة، كما جعله من غير شعور يعيد تشكيل شخصية المجرم أو الجاني دائما في صورة الإسرائيلي المحتل، تماما كما وصفه في هذا الكتاب الذي بقدر ما ساهم في بلورة فنياته لاحقا، بقدر ما كان نقمة حقيقية عليه في ما يتعلق بعلاقته مع دور النشر الفرنسية، التي قال عنها في أحد حواراته أنها تكن له عداء سياسيا وتاريخيا خالصا.
لم يسع النقد الجزائري قط إلى تناول ظاهرة "التجاهل السردي" للقضية الفلسطينية ودراسة أسبابها، بل وقف هو الآخر متجاهلا هذه الحقيقة، مختبئا خلف مئات القصائد الشعرية الفصيحة والشعبية المتناولة للمأساة الفلسطينية أو خلف بعض المسرحيات التي عرضت وكتب عن فلسطين كل بضع سنين، وكأن الرواية غير معنية بهذه القضية أو أنها اكتفت ببعض النصوص النادرة جدا على غرار رواية "سوناتا لأشباح القدس" لواسيني الأعرج أو بالتفاتة بسيطة وطريفة كالتي تضمنتها رواية "المتحرر من سلطة السواد" لعبد المومن بن سايح. اكتفاء منطقه الوحيد ألا منطق له.