عندما نقل الصحافيون، في مختلف الشاشات والمنابر، فاجعة قصف مستشفى المعمداني في حي الزيتون جنوب مدينة غزة، حيث كان يحتمي آلاف النازحين الذي هجّروا قسرا من بيوتهم، غالبا ما كانوا يتركون الحادثة ونتائجها المفجعة جانبا، ليدخلوا في جدال لا ينتهي عمن كان وراءها، بحيث لا نكاد نعرف، بعد النقل، عن الفاجعة أيّ شيء: لا مقدار هولها، ولا عدد ضحاياها من أطفال ونساء وشيوخ، ولا مصير المرضى والنازحين، ولا إلى أين سينقلون.
كان الفيلسوف الفرنسي ميشيل سير في أحد حواراتهقد تحدث عما دعاه "عصر نهاية الحقيقة"، مشيرا إلى أننا، في جدالاتنا العمومية التي أصبحت سائدة، لم نعد نسأل: "هل الأسبرين دواء فعّال؟"، وإنما نتساءل: "كم عدد الذين يعتقدون أن الأسبرين فعال؟".
الأمر نفسه كان ينتهي إليه الصحافيون عندما كانوا يتجادلون في شأن القذيفة المشؤومة. كانوا يخلصون في الغالب إلى القول: "حتى لو عرفنا المصدر، فإن الأمر لن يغير من الواقع شيئا"، والغريب أن هذا الواقع الذين يدّعون أنه لن يتغير، لم يكن واقع ضحايا القذيفة، واقع العجزة والعاجزين، وكل المرضى هم كذلك بالتعريف. فكأن هذا الواقع لم يكن يهمهم كثيرا، ما كان يبدو لهم أكثر أهمية هو ما ترتب عن هجوم القذيفة من خروج للجماهير المندّدة، في هذه العاصمة أو تلك، محملة المسؤولية، للجانب الذي تعتقد هي أنه وراء الرمي.
كأن هؤلاء المجادلين ينتهون إلى القول: ليس المهم حتى أن نعرف من الذي كان وراء القذيفة، لأن هذا لن يغير من الواقع شيئا. فحتى إن عرفنا، فإننا لا نستطيع اجتثات ما يعتقده هذا الطرف أو ذاك، وليس باستطاعتنا أن نوقف التنديدات هنا أو هناك
كأن هؤلاء المجادلين ينتهون إلى القول: ليس المهم حتى أن نعرف من الذي كان وراء القذيفة، لأن هذا لن يغير من الواقع شيئا. فحتى إن عرفنا، فإننا لا نستطيع اجتثات ما يعتقده هذا الطرف أو ذاك، وليس باستطاعتنا أن نوقف التنديدات هنا أو هناك. وحتى لو عرفنا المصدر بالضبط، وهو أمر لم يكن متيسرا وسط الحرب القائمة، فإن ذلك سيظل من غير مفعول. لقد فعل الخبر فعله من غير أن تعرف حقيقته، أو لنقل من غير حاجة إلى معرفة حقيقته، بل إننا يمكن أن نقول، إن حقيقته قد عرفت، وهي ليست عند هيئات التحقيق، وإنما عند من يعتقدونها، عند الذين أخرجتهم إلى الشوارع للتنديد.
لا يهمنا أن نعرف ما إذا كان الدواء معالجا، المهم هو عدد الذين يعتقدون أنه كذلك. لقد أصبحت علاقتنا بالحقيقة مكسوة ضبابا. توضيحا لذلك يميّز ميشيل سير بين ثلاثة أنواع من الحقائق:
الحقيقة العلمية المضبوطة، التي يمكن إثباتها، شأن الحقائق المنطقية والرياضية.
الحقيقة التجريبية التي تؤكدها التجربة المخبرية، مستعينة بالتحليل الرياضي.
وأخيرا حقائق الرأي: ما نعتقد أنه حقيقة من غير أن نشعر بضرورة إثباته. وهذه هي حقائق اليوم. وهي أكثر الحقائق انتصارا وانتشارا.
المسافة بين الذات والموضوع، وهي مسافة أساسية في العلوم الحق، تكاد تمّحي في هذا المجال، حيث تعتبر الذات أنها هي الموضوع. لذلك فإن هذا النوع الثالث من الحقائق، لا يتطلب مجهودا وعملا من ورائه. إنه سهل التوليد، يسير الترويج، قابل لأن يتسرب إلى كل الأماكن، وهو سريع الاقتناص، لأنه كثيرا ما يشفي الغليل، وغالبا ما يجد الأذن التي تتلقفه، والذهن الذي يستوعبه، والقلب الذي يحن إليه.
يسوق م. سير مثال دونالد ترمب وأتباعه الذين "يعتقدون أن العالم يختزل في تمثلاتنا عنه". فهم يقولون في أنفسهم: "إذا كان معظم الناس يفكرون على النحو الذي نفكر به، فإننا سننتصر". على هذا النحو ينتصر المنتخبون. أما العلماء فهم أكثر واقعية، لأنهم يؤمنون بأن الموضوع يوجد في استقلال عن تمثلاتنا. الحقيقة عندهم لا تقاس بعدد الذين يؤمنون بها. وإنما بالطرق التي توصلنا بها إليها، وبالعدّة الرياضية التي استخدمناها، والتي نستطيع، عن طريقها، أن نقنع بها غيرنا.
أما العلماء فهم أكثر واقعية، لأنهم يؤمنون بأن الموضوع يوجد في استقلال عن تمثلاتنا. الحقيقة عندهم لا تقاس بعدد الذين يؤمنون بها. وإنما بالطرق التي توصلنا بها إليها، وبالعدّة الرياضية التي استخدمناها، والتي نستطيع، عن طريقها، أن نقنع بها غيرنا
ما يسمح لنا اليوم بهذه الضبابية وما يشجع عليها، هو الوسائط الجديدة التي تجعلنا نخلط، بكل سهولة، بين المعلومة والمعرفة. فنعتبر أن ما تتناقله الوسائط الجديدة من معلومات هو معارف، بل معارف "حقيقية". في حين أن المعرفة تكون أساسا، وكما أثبت كارل بوبر، نتيجة عمليات تكذيب Falsification، وهي وليدة صبر وتواضع وروية. ضد هذه العمليات تعمل الوسائط الجديدة على صنع الأخبار الكاذبة fake news، فتروج لها عاملة على توسيع الأعداد التي تعتقد بصحتها، لأن المهم ليس هو صحة الخبر أو حقيقته، وإنما عدد من يؤمن به ويعتقد حقيقته. المهم هو انتشاره الذي يضمن انتصاره.