- تستحضر في أعمالك العديد من الرموز مثل الخيول والطيور والأسماك. ما الذي تريد قوله من خلالها؟
يقول رائد علم الاجتماع ابن خلدون: "الإنسان ابن بيئته"، فسلوك الإنسان وطباعه وثقافته هي امتداد لعناصر بيئته وطريقته في التواصل والتفاعل معها، فهي التي تصقله وتلونه حسب جغرافيتها ومناخها. وكوننا ننتمي إلى تلك البيئة الخلابة والولادة بالمبدعين الشغوفين بالفنون البصرية والشعبية وفنون الخطابة والفنون الحرفية، وكوننا جزءا من ذلك النسيج الثقافي والمعرفي للمنطقة بما ننتجه من فنون بصرية من خلال تعمقنا بالتفكير في الإنسان والعلاقات التي تربط البشر بعضهم ببعض، ودور التراث المحلي والثقافة عموما في ذلك، فكرت مليا كيف يمكنني أن أجمع تلك العلاقات الانسانية ونظرتي إلى الحياة والإحساس بالجمال عبر قيم فنية راقية، وأن أتواصل مع من حولي وأعبر عن أفكاري وأحاسيسي بصريا، مستندا إلى تراثي الجنوبي وثقافتي العربية السعودية لأوصل من خلالهما رسالتي ورؤيتي الفنية بأسلوب عصري حديث يخاطب العالم أجمع. لذلك أعمالي ليست مجرد خطوط مستقيمة وزوايا متوازية ومتقاطعة ولا مساحات لونية متراكبة فوق بعضها، بل هي منطقة تنقلات زمانية ومكانية تحقق أكثر من زمن واحد بالعمل من أمام المشهد وخلفه وأعلاه وأسفله وجانبيه في مناطقية بيئية محددة. أعتقد أنني قد حققت من خلال التكوين واللون مفهوم الإثراء بالعمل كجنس دلالي وتعبيري ذاتي يحمل دلالات نفسية وحسية وانتماء الى المكان في حد ذاته كمقصد لما يحققه ذلك المكان من الشعور بالارتياح وتفريغ ضغوط الحياة وانشغالاتها. لذلك أسعى جاهدا في جميع أعمالي الخاصة إلى تقديم قيم فنية وجمالية وإبداعية متفردة لإيصال رسالتي ورؤيتي الخاصة للإنسان كجسد وروح وكيان، وعلاقته بما حوله من موروث معماري وثقافي ومجتمعي باستلهام مجموعة من الرموز والمفردات من قوارب وطيور وأثاث وكراس وخيول وأسماك... إلخ، بلغة بصرية تعبيرية من خلال تشكيلات وطاقات ودلالات لونية عميقة وحروف مليئة بالحركة والليونة كمفردات تشكيلية معبرة ومتضمّنة جماليات من خلال علاقة بعضها ببعض.
كل الأماكن
- للأماكن حضور في لوحاتك بفضائها الواسع كالمدن، وبتفاصيلها الصغيرة مثل ركن في مقهى، فكيف تبدو علاقتك بالأماكن وكيف يستوعب الفن هذه العلاقة؟
منذ الطفولة يجذبني كل ما له علاقة بالشكل واللون والضوء والظل، وكل ما له علاقة بالغائر والبارز، فأخذت أتلمّس تلك الأشكال والرمزيات والعناصر والمفردات الموجودة على تلك المسطحات الحجرية والمكملات الخشبية كأساس إنشائي وتكميلي جمالي في العمارة الشعبية التي كنت ولا أزال جسدا وروحا منتميا إليها. أتلمس وأنهل من كل تلك الجماليات شكلا ومضمونا وأتساءل عن سر جاذبيتها وسيادة كل مفردة على المشهد كقيمة جمالية متفردة عندما تصطبغ وتتجمّل في كامل حلتها باللون الصريح النابض بالحياة والحيوية في بهاء متفرّد، وعندما ينتزع منها اللون تستحضر الضوء كقيمة جمالية عالية من خلال الغائر والبارز والملمس. تشبّعت عيني بكم هائل من المفردات والمشاهدات البصرية وامتلكت مخزونا بصريا متعدد المشهدية بين المنتج الإنساني والطبيعة الساحرة المتعدّدة التضاريس، بين الحجر والخشب، بين الموروث الشعبي والانفتاح الحضاري، بين الحكايات والأساطير والأهازيج والرقصات. إنها طوبوغرافية المكان ذات الموروث الشعبي والبنائي والجغرافي المتفرد ممتزجا بتنقلاتي الدراسية والوظيفية بين الباحة ومكة وجدة وتلاقح الحضارات والمشاهد والثقافات والرؤى والأفكار.
- يحضر الخط العربي في العديد من أعمالك خاصة في الجداريات التي عرضت في مطار الملك عبد العزيز الدولي، فلماذا الخط العربي؟
يعتبر الخط العربي فنا قائما بذاته يعكس ثراء الثقافة العربية، كما تتميز الكتابة العربية بكونها متصلة ولينة مما يجعلها قابلة لاكتساب أشكال هندسية مختلفة من خلال المد والرجع والاستدارة والتزوية والتشابك والتداخل والتركيب. فالحرف العربي عبارة عن جسد وروح وصوت وهوية، ومن هنا أعمد دائما إلى استخدام الحرف العربي وليس الخط العربي كشكل وصوت ونغم، ومن الضرورة قمع اللغة حتى لا تسقط عملية المشاهدة، فجميع أعمالي عبارة عن أحرف متناثرة متداخلة متشابكة ذات شفافيات آسرة غير مقروءة ولا تكوّن في مجملها نصا أو جملة مقروءة لأن أي لغة تقرأ تسقط عملية المشاهدة فيصبح الشكل بلا قيمة، ويتحول المشهد البصري إلى نص.
- لماذا اخترت خط الثلث، وما الذي يميزه عن بقية الخطوط العربية؟
خط الثُلث هو أجمل الخطوط العربية وأصعبها من حيث القواعد والإنشاء ويمتاز بالمرونة ومتانة التركيب وبراعة التكوين وجمال القوام.
ألوان متغيرة
- لديك مجموعتك اللونية الخاصة وأكثر ما يظهر فيها الأزرق، فكيف تبدو علاقتك بالألوان وبالأزرق تحديدا، وهل من الممكن أن تميل في مرحلة ما الى ألوان محدّدة تستغني عنها في ما بعد؟
يقول الفنان التشكيلي العراقي الدكتور محمد الكناني: "اللون يأتي بمعنى النوع، واللون في اللوحة هو نوع تعبيري ونوع جمالي فاللون المسحوب من منطقة الكيمياء والفيزياء لا قيمة تعبيرية له إنما هو عبارة عن خامة وطيف أو موجة، لا تجنيس له فنجمله على سطح اللوحة كمجنس دلالي وتعبيري ذاتي وسيحمل دلالات محملة من الذات المنتجة كدلالات نفسية وحسية تداولية". فاللون له طاقة عالية وأثر بالغ على سلوك الإنسان، ولعلي أكون محملا بدلالات وقيم لونية شخصية لا تشبه أحدا في فرادتها كوني أتنقّل في اشتغالاتي بين المعرفة والخبرة والشعور، فاللون الأزرق بالنسبة إليّ هو حالة ودلالته الحركة والنمو والحيوية والإنجاز، لون تداولي كالبحر في حركته وكالسماء في اتساعها وصفائها، فاللون حالة تتغيّر وتتبدّل بين حين وآخر، قد يسود البياض أحيانا والأرجواني أحيانا أخرى والأصفر والأحمر والأخضر، كل محمل بدلالاته وأثره وتأثيره. يقول بيكاسو: "إن الألوان مثل الملامح تتبع تغيرات المشاعر".
- لماذا اخترت الأسلوب التعبيري الرمزي؟
من مفردات الحداثة تحويل الحدث من الحالة البصرية الواقعية إلى حالة الشعور التي تؤسس للاغتراب، ولما هو أبعد من الواقع والمتخيل، فالفن الحديث أو ما يسمى بالحداثة في الفنون أفسح المجال لتفكيك وانصهار تلك المدارس التي كانت سلطوية وتبنى على منهجية منظمة منضبطة لا تقبل التغيير أو الخروج عن قواعدها، مما أدّى إلى تداخل الأساليب والاتجاهات بعضها مع بعض في عمل فني واحد. أنتمي إلى المدرسة التعبيرية الرمزية التي لها دور فاعل في الانفكاك والتحرّر من سلطة المدارس التي كانت مهيمنة مثل الواقعية والرومانسية والانطباعية والسوريالية وغيرها. هذا الأسلوب التعبيري الرمزي يمنح الفنان مساحة شاسعة للتعبير عما يريده ويلج في خاطره، ويسمح أيضا بجمع المتناقضات في عمل واحد مما يجعل الخيال خصبا ثريا لاستدعاء تلك المفردات البصرية والفكرية والسمعية الكامنة في العقل الباطن والوجدان، في صور حية تتوالد في أشكال ورمزيات متشبّعة ومنصهرة مع الكم الثقافي والمعرفي للفنان وهي تستدعى بأشكال ومفردات جديدة وبإحساس متفرّد يخص الفنان ذاته، مما يؤدي إلى اتساع الأفق لتوظيفها على سطح العمل في أشكال ومساحات وألوان جديدة تواكب الفعل الزماني والمكاني الحالي.