ما يحسب للمهرجان، أنه حقق، في ظل ظرف ملتبس سياسيا واجتماعيا، مع أصداء أحداث غزة الأليمة، حالة خاصّة، وسط رتابة الأحداث العراقية، التي تقاسمتها هموم الحياة اليومية، وأخبار السياسة المرهقة والضغط الاقتصادي المقلق. ذكّر المهرجان أبناء العاصمة، ومن خلالهم أبناء المدن العراقية، الذي سافروا الى العاصمة بأعداد لا بأس بها لحضور فعالياته، بالروح الحية للمجتمع، تلك القوة الكامنة وراء كل عمل جمالي، والذي أُريد لها أن تتوارى في سنوات سابقة أغرق العراق فيها في صراعات دامية، حتى كاد الناس أن ينسوا أن ثمة حياة عادية تقع فيها أشياء جميلة مثل الذهاب الى المسرح في موعد معلوم، وقطع تذكرة، والجلوس وسط الحشد الشاخص بأبصاره إلى الخشبة السحرية التي لا تلبث أن تفتح نوافذ تخترق الزمان والمكان إلى عوالم شكسبير وموليير وسعد الله ونوس وعوني كرومي وغيرهم من العلامات الفارقة. كأن المهرجان كان استدعاء لذلك الإيقاع المرح، الخفيف، الذي تبعثه التسلية والفائدة في النفوس، ذلك النسغ الذي يُجرى عطاؤه بلا مآرب، لا وعود إلا الدهشة والفكرة المضيئة والرعشة الغامضة أمام سحر العمل الإبداعي. بدا أن ذلك السحر ممكن أن يزدهر من جديد بين أحياء مدينة السلام وجمهورها الذي تلقّى إشارات المسرحيات العشرين المتنافسة بمحبة ومسؤولية.
تحريك الركود
عرض الافتتاح كان مسرحية "ترنيمة الانتظار"، للعراقي علي حبيب، أعقبه عرض حاز على تفاعل جمهور "المسرح الوطني" هو"يا زارع البزرنكوش" لفريق مسرحي ضمّ خمسة وعشرين ممثلا، كلهم من المكفوفين. فلسطين كانت حاضرة بقوة أيضا، في كلمات المنظمين، وفي الأداء الارتجالي للفنانيَن عزيز خيون ود. عواطف نعيم، وفي صوت جواد الشكرجي الذي قدّم مقاطعَ من قصيدة محمود درويش "أحمد الزعتر" وسط لهيب الأكف المصفقة، وشهقات الحاضرين، ودموعهم الهاربة كمدا.
العرض العماني موشكا
كرّم المهرجان في الافتتاح الممثلة المصرية سميرة عبد العزيز، والممثل الأردني محمد العبادي، والكاتب المسرحي القطري حمد الرميحي، والمخرج المغربي بوسلهام الضعيف، والممثلة التونسية فاطمة بن سعيدان عرفانا بمسارهم الإبداعي.
ضمت عروض المهرجان تنوعا كبيرا في الموضوعات والمعالجات، وتعددا في اللغات والأساليب والمقترحات الإخراجية، منها ما استند إلى سرديات راسخة كالعرض البلجيكي-التركي الذي استعاد "جلجامش"، ومنها ما اختار فضاء الأسطورة كما في عرض "لا علاقة له بالموضوع"للبرازيلي لينيرسون بولوني، وعرض "موشكا"للعماني يوسف البلوشي وتناولت أسطورة شجرة اللبان المسكونة. ومنها ما اعتمد المشكلات العصرية الضاغطة كمسرحية "أمل" للعراقي جواد الأسدي، و"حيث لا يراني أحد" للمصري محمود صلاح، و"خوف سائل" للعراقي صميم حسب الله، ومسرحية "إكستازيا" المغربية التي تناولت الحياة الزوجية عبر بوابة الاكتئاب والإدمان على المخدرات. بينما أفاد بعض المشاركين من كلاسيكيات عالمية برؤية خاصّة، مثل "روميو وجوليت" للإيطالي والتر مالسيني بوشكا، و"الملك لير وساحرات مكبث" لكاميران رؤوف. في حين ذهب عرض "نوستالجيا" للجزائري لخضر منصوري الى مسرح العبث مستعيدا "حكاية دبة الباندا..." لماتيني فيزنياك.
العرض المصري "حيث لا يراني أحد"
بعض العروض خطف تفاعلا غير مألوف. في مسرحية "خارج عن السيطرة" للتونسية أمل عويني قفز في نهاية العرض الكوريغرافي بعض المشاهدين لمعانقة البطلة، العويني ذاتها، تأثرا وانسجاما، في ما انهمرت دموع العويني فرحا بعد موجة التصفيق الحار التي هزّت المسرح انتصارا لفكرة العرض الذي صورت واقعة انفجار مخزن للغاز في أحد المعامل المخالفة للضوابط بحي من القصدير مجاور لمنطقة عمالية.
وشهدت مسرحيات مثل "بيت أبو عبد الله" و"أمل" و"مكبث زار" استجابة رائعة من الجمهور الذي امتلأت به مسارح المهرجان.
لكن عروضا آتية من فهم آخر للمسرح، لم يعتده المشاهد العربي، غامرت بجموح وقدّمت نفسها رغم "غربتها". العرض الألماني "كونترا" لجيلين إفانوفس جسّد صراعا مجتمعيا طبقيا اعتمادا على عزف قطعة موسيقية لباخ ورقص الأبطال اللذين طوّعوا أجسادهم لتمرير رسائل عميقة في تناظر تعبيري بدا أن تدريبا مكثّفا كان وراءه.
التنظيم الجيد للفعاليات، وجدية المشاركين، أعادت للأنظار السمعة الرفيعة التي يتمتع بها المسرح العراقي عربيا، وهو يستند على عراقة تمتد إلى القرن الثامن عشر عند بدايات تأسيسه في الموصل على يد بعض القساوسة العائدين من أوروبا. لاحقا، أسس مجموعة من الرواد أمثال حقي الشبلي وإبراهيم جلال وجعفر السعدي ويوسف العاني قواعد معمار الفن المسرحي العراقي الذي شعّ تأثيره العميق إلى باقي الدول العربية الى جانب نظرائه من الفنون المسرحية العربية عبر تقاليد راسخة ظلت تنتج أجيالا من الفنانين والكتاب المسرحيين وصناع السينوغرافيا والمخرجين الأفذاذ.
الهامش ينافس المتن
وتكاد تشكل الفعاليات المرافقة على هامش العروض المسرحيّة متنا منافسا للفعاليات الرئيسة، وأعني هنا الورش الفنيّة التي احتضنها "منتدى المسرح" ببنايته الأثرية الفريدة، وإطلالته على ضفاف نهر دجلة الذي ترك انطباعا ساحرا لدى الضيوف، خاصة الوفود الأوروبية، على الرغم مما يمر به من شحّ في منسوب المياه.
ضمّت الفعاليات المرافقة ورشة "التمثيل المسرحي" بمحاضرة د. هيثم عبد الرزاق، وورشة "صناعة الحضور الأدائي للمؤدّي" بمحاضرة الفنان أنمار طه، وورشة "تكوين الجسد" بمحاضرة الأردنية أسماء مصطفى، والسوريّة مروة الأطرش، والعراقية لبوة صلاح.
جائزة أفضل ممثلة أسماء الشيخ
تمثّل هذه الورش قيمة معرفيّة أساسيّة تطور من ثقافة الفنان، وتفتح أمامه آفاقا واسعة في تكامل حضوره على الخشبة. ورشة الدكتور عبد الرزاق، مثلا، فتحت الباب لخبرات فضاء التمرين المتواصل ودوره في صقل الموهبة من الهواية إلى الاحتراف، ولعبد الرزاق مشوار مع هكذا ورش في مهرجانات عربيّة وعالميّة. في ما لفتني أن ورشة تكوين الجسد خصّصت أغلب محاضراتها للنساء حصرا بهدف التدريب على صناعة التكوين الجسدي فوق الخشبة بوصفه العنصر المركزي في العرض، والذي يمكن عبره تكوين أواصر التواصل مع المحيط، كما في عروض الكوروغرافيا الشائعة التي تعتمد جسد الممثل وحده أداة في التواصل مع المتلقي. الجسد هنا مصدر البث الوحيد صحبة الموسيقى والسينوغرافيا، لا نص ولا حوار، ومتى ما استطعنا تفجير طاقته الكامنة، فإن رسائل تاريخيّة وفلسفيّة ونفسيّة يمكن أن يحملها إلى المُشاهد عبر فيزياء حركته وتشكيلاتها الصورية. إنه استثمار في الجسد الواقعي من جهة، والمتخيل من جهة أخرى بقوة التمثّل الأدائي، للتعبير عن بلاغة الرسالة المراد إيصالها.