"نظر إلي وابتسم..."
هذا كل ما تذكره حارس مقر القوات المتعددة الجنسية في لبنان، عن الانتحاري الذي قاد شاحنة "المرسيدس" الصفراء المحملة بالمتفجرات إلى المبنى يوم 23 أكتوبر/تشرين الأول 1983 وقتل 220 جنديا أميركيا أكثرهم من قوات مشاة البحرية (المارينز)، ومعهم عشرون بحارا وثلاثة جنود أميركيين. أصيب 28 آخرون بجروح بليغة ومات منهم 13 بعد أيام قليلة. بعدها بعشر دقائق، نفذ انتحاري ثان هجوما مشابها على مقر القوات الفرنسية في منطقة الرملة البيضاء، قتل فيه 58 عسكريا فرنسيا.
كان الهجوم على مقر المارينز تحولا كبيرا في مسار الحرب الأهلية اللبنانية وقد وصفه الرئيس الأميركي رونالد ريغان بـ"الفعل الحقير" بينما توجه نظيره الفرنسي فرانسوا ميتران إلى بيروت لزيارة موقع التفجير. وكذلك فعل نائب الرئيس الأميركي جورج بوش (الأب) الذي وصل العاصمة اللبنانية في 26 أكتوبر/تشرين الأول 1983 وقال: "لن يخيفنا الإرهابيون".
قوة المارينز الأميركية كانت قد جاءت إلى لبنان ضمن "القوات متعددة الجنسيات" للإشراف على انسحاب المقاتلين الفلسطينيين من بيروت الغربية بعيد الاجتياح الإسرائيلي للبنان بين يونيو/حزيران وسبتمبر/أيلول 1982، بطلب من رئيس منظمة التحرير ياسر عرفات. ظن عرفات أن الغطاء الأميركي وحده قادر على منع الإسرائيليين من احتلال ما تبقى من العاصمة اللبنانية، والتي كانت قد غزت لبنان بهدف خلق منطقة عازلة بعمق 40 كيلومترا للفصل بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية. أما الهدف غير المعلن فكان سحق المنظمة والقضاء عليها قضاء كاملا.
أشرف المبعوث الأميركي فيليب حبيب على إرسال 800 جندي أميركي إلى بيروت لمراقبة انسحاب القوات الفلسطينية. ووصلوا يوم 25 أغسطس/آب 1982 وحددت لهم مهلة 30 يوما لإنهاء مهمتهم. ولكن الانسحاب الفلسطيني انتهى في الأسبوع الأول من سبتمبر/أيلول، وفي العاشر من الشهر نفسه أمر ريغان قواته بالعودة إلى بلادها.
بعد أربعة أيام، تدهورت الأوضاع الأمنية في لبنان مع اغتيال الرئيس بشير جميل في 14 سبتمبر/أيلول وبهجوم القوات اللبنانية بقيادة إيلي حبيقة على مخيمات صبرا وشاتيلا وارتكاب مجازر هناك، ما خلف آلاف الضحايا الأبرياء من الفلسطينيين، انتقاما لمقتل الشيخ بشير.
عقد الرئيس ريغان سلسلة من الاجتماعات في البيت الأبيض بين 18 و20 سبتمبر/أيلول وتقرر في نتيجتها عودة القوات الأميركية إلى بيروت بمهمة "تمكين الحكومة اللبنانية من استعادة السيادة الكاملة على عاصمتها؛ الشرط الأساس لبسط سيطرتها على كامل البلاد".
الصحافي الأميركي الشهير توماس فريدمان كان في بيروت يومها، مراسلا لصحيفة "نيويورك تايمز"، وهو يعزو قرار الرئيس ريغان إلى ما وصفه بـ"الذنب الأميركي"، مجادلا بأنه لو لم ينسحب الأميركيون بهذه السرعة من بيروت، لما قُتل بشير جميل، وربما لما حدثت مجزرة صبرا وشاتيلا.
عاد 1500 جندي أميركي إلى لبنان ودعاهم الرئيس أمين جميل– شقيق الشيخ بشير، والذي انتخب رئيسا للجمهورية خلفا لأخيه– إلى تدريب الجيش اللبناني. وبالفعل بدأت التدريبات نهاية عام 1982، ما أزعج طيفا واسعا من السياسيين اللبنانيين، المعارضين للأخوين جميّل في الأساس، ومنهم الزعيم الدرزي وليد جنبلاط وحليفه في حركة "أمل" نبيه بري.
أولى رسائل الرد على تعاون أمين جميل مع الأميركيين جاءت في 18 أبريل/نيسان 1983، يوم اقتحمت سيارة شحن صغيرة من طراز "شيفروليه" مقر السفارة الأميركية في بيروت وقتلت أكثر من 60 شخصا. لم يثنِ ذلك الرئيس جميل عن مشروعه، وفي 17 مايو/أيار 1983 كانت اتفاقية السلام بينه وبين إسرائيل، التي قلبت ما تبقى من السياسيين اللبنانيين المسلمين والموالين لسوريا ضده. وقد وصفها رئيس حكومته شفيق الوزان في حديث مع أحد الدبلوماسيين الغربيين قائلا: "أريدك أن تعلم أن هذا اليوم هو أتعس يوم في حياتي. هذه الاتفاقية ليست مشرفة".
"حركة الجهاد الإسلامي"
رسميا، تبنت "حركة الجهاد الإسلامي" (التي سبقت في الظهور المنظمة الفلسطينية التي تحمل الاسم ذاته) مسؤولية الهجوم على مقر المارينز في 23 أكتوبر/تشرين الأول 1983، وهي إحدى الميليشيات الشيعية العاملة في لبنان آنذاك. وصفها البعض بأنها التنظيم الذي هيأ لولادة "حزب الله"، وقالوا إنها أنشئت مطلع عام 1983، وعد آخرون أن مؤسسها هو القيادي في "حزب الله" عماد مغنية، وهو ما نفاه الحزب في سنوات لاحقة. أثبتت التحقيقات أن سائق السيارة التي ضربت مقر المارينز كان مواطنا إيرانيا يُدعى إسماعيل عسكري، وأن مقر "حركة الجهاد الإسلامي" كان في بعلبك، وأنها أنشئت من قبل إيران– بحسب قول الأميركيين– لطرد إسرائيل والولايات المتحدة من لبنان، بعد أربع سنوات من نجاح الثورة في طهران.