في غضون أسبوعين فقط انتقلت منطقة الشرق الاوسط والعالم من حديث الممر الاقتصادي، ومنافسة الممرات الأخرى، الى محاولات يائسة لاستجداء ممر إنساني من إسرائيل لحقن أنهار الدماء وإيصال الماء والغذاء لنحو مليوني إنسان (أو "حيوانات بشرية") بحسب ما وصفهم وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت واعدا علنا بإبادتهم عبر حصارهم وإحراقهم بأحدث صواريخ البارود والنار تحت أعين العالم وشاشاته وأقماره الاصطناعية ووسائل تواصله الاجتماعي على اختلافها.
تتحشرج الكلمات أمام أجساد الأطفال المرتجفة على الشاشات، أو المدفونة تحت الأنقاض، أمام نبع الدماء الفلسطيني لأرض لم ترتو منه بعد طوال عقود. ما كل هذا الرعب الذي نشهده، ما كل هذه الجحيم المتمادية، يا الله!
ممرات جوية مفتوحة حتى ترميد غزة ودفن أهلها تحت ركامها... لا يعرف الحرب إلا من عاشها، ولا يعرف طعم البارود والنار الا من تذوقها، ولا يعرف صوت رعد الصواريخ وبرقها إلا من سقطت على رأسه، وخبر مفاعيلها. أنا واحد من هؤلاء أشعر بطعمها تحت روحي المهروسة، ولو من بعيد.
كيف لممرات اقتصادية أن تشق طريقها الى أوروبا فوق دماء الأطفال، وهي كلها لم تكتف بمناصرة إسرائيل، بل توكلت عنها تقديم الذرائع والتبريرات والأكاذيب لمجازرها المستمرة. ماذا يتخيل العالم الصامت أنه حاصد غدا؟
تحفر غزة في عظام الذاكرة، وقد عشت ونشأت في بيروت حيث خبرت وتذوقت طعم الحروب ونتائجها المريرة. صمّت أذناي وآذان أهلي ورفاقي لأيام وأسابيع وأشهر ولا تزال... مذ دوى أول صاروخ "غراد" قبالة بيتنا، مع دخول ما سمي "قوات الردع العربية" إلى بيروت (الغربية) عام 1976، وبعدها مع الاجتياح الاسرائيلي لبيروت وحصار "سيدة العواصم" عام 1982، وليس انتهاء بحرب "لو كنت أعلم" الإلهية في تموز/يوليو 2006، وصولا إلى التفجير "شبه النووي" لمرفأ بيروت ومعه نصف المدينة (بغارة إسرائيلية على الأرجح). ما بين ذلك كله، من حروب عبثية "عونية" أو حزبية منوعة واغتيالات وعبوات وسيارات مفخخة لا عد لها ولا حصر، ولا إحصاء دقيقا لنتائجها المفجعة ولأنهار الدماء التي سالت والأشلاء البشرية التي طارت أو ذابت.
في لحظة، تقفز كل هذه الأوجاع من الذاكرة، بعدما حاولنا مرارا دفنها على أمل أن تذهب إلى غير رجوع. فمن عايش "ممرات الصواريخ"، ومن يتابع ما يحصل منذ أسبوعين، يدرك تماما أي نوع من المقابر الجماعية سنشهد في غزة وغيرها ربما، وفي مقدمها لبنان... ما لم تحدث معجزةٌ توقف المذبحة المفتوحة على مصراعيها.
#غزة_تستغيث تراند في الصدارة، ولا من مغيث يطرد آلة الدمار والقتل. ماذا ستحصد إسرائيل بعد تنفيذها "أم الجرائم"؟ ماذا تتخيل أن تحصد بعد تصفية مليونين من البشر قتلا وتهجيرا؟ وماذا يتخيل العالم الصامت أنه حاصد غدا؟
لا يسع كل إنسان عاقل إلا أن يتمزق وجعا من حرب الإبادة الجديدة، والوحشية الإسرائيلية المتعاظمة، ويتألم أكثر، كم يتألم من هذا الظلم التاريخي المتمادي، وسط انحياز أميركي وغربي تاريخي ظالم، يدوس كل القيم التي ينادي بها المرة تلو الأخرى.
عن أي ممرات أو مناخ وبيئة وحقوق انسان سيتحدثون في اليوم التالي؟ وهل تنتظر أوروبا (لا اسرائيل) أن ممرا سيوصل إليها الطاقة المطلوبة، أو أنها ستنجو من جحافل المهاجرين؟
قبل نحو شهر فقط، تعهد رئيس الوزراء البريطاني، ريتشي سوناك، بحظر سلالة كلاب أميركية، في نهاية السنة، ووصفها بأنها "خطر على المجتمعات"، بعد تأكيد موت شخص في بريطانيا، متأثرا بإصابته بجروح متعددة بعدما هاجمه كلبان يعتقد أنهما من سلالة "أميركان بولي إكس. إل.".
منذ يومين أعلن ريتشي سوناك نفسه "أنا في إسرائيل، أمة في حالة حزن. أبكي معكم وأقف معكم ضد آفة الإرهاب. اليوم وإلى الأبد". لم يرف له جفن ولم ينبس بكلمة تواسي نحو 4136 ضحية وأكثر من 13 ألف جريح فلسطيني، ولم ينحنِ بكلمة أسى واحدة أمام مذبحة مستشفى وتدمير كنيسة ونزوح نحو مليون بشري حتى كتابة هذه الكلمات.
عن أي ممرات أو مناخ وبيئة وحقوق انسان سيتحدثون في اليوم التالي؟ وهل تنتظر أوروبا (لا اسرائيل) أن ممرا سيوصل إليها الطاقة المطلوبة، أو أنها ستنجو من جحافل المهاجرين؟
كيف لممرات اقتصادية أن تشق طريقها الى أوروبا فوق دماء الأطفال، وهي كلها لم تكتف بمناصرة إسرائيل، بل توكلت عنها تقديم الذرائع والتبريرات والأكاذيب لمجازرها المستمرة. فهل يؤتمن الجلاد؟
وهل يحق للغرب الذي يتبجح ليل نهار بحقوق البشر والحيوان وألوان قوس القزح ثم يصم أذنيه ويعمي بصره عن "الحيوانات البشرية" التي تسقط بالآلاف ظلما وعدوانا، أن ينعم بممر يحمل إليها الطاقة والخيرات والازدهار؟