كنيسة القديس بورفيريوس في غزة... رمز انتصار المسيحية على الوثنيةhttps://www.majalla.com/node/302591/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D9%83%D9%86%D9%8A%D8%B3%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%AF%D9%8A%D8%B3-%D8%A8%D9%88%D8%B1%D9%81%D9%8A%D8%B1%D9%8A%D9%88%D8%B3-%D9%81%D9%8A-%D8%BA%D8%B2%D8%A9-%D8%B1%D9%85%D8%B2-%D8%A7%D9%86%D8%AA%D8%B5%D8%A7%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D9%8A%D8%AD%D9%8A%D8%A9-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%AB%D9%86%D9%8A%D8%A9
قصف الجيش الإسرائيلي قبل أيام قليلة كنيسة القديس بورفيريوس في حي الزيتون وسط مدينة غزة، بدعوى وجود موقع لحركة "حماس" قرب الكنيسة، مما أدّى إلى مقتل وجرح العشرات من المدنيين اللائذين بحمى هذا الصرح المقدس المسمى على اسم واحد من أهم قديسي الحقبة البيزنطية في خضم صراعها المصيري مع بقايا الوثنية.
يرجع بناء الطبقة الأولى من الكنيسة إلى العام 425 ميلادي، ولكن البناء الحالي يُنسب إلى الصليبيين الذين بنوا هذا الصرح في خمسينات القرن الحادي عشر الميلادي، بحسب البروفيسور ريجينالد دينيس برينغل في كتابه "كنائس مملكة القدس الصليبية" الصادر عن جامعة كمبريدج 1993. ولكن بناء الكنيسة تعرض منذ ذلك الوقت لعدد من الكوارث الطبيعية والبشرية، إلى أن رمّم في العام 1856 ترميما كاملا أضاع الكثير من معالم المبنى القديم، حيث لم يبق من بناء الفترة الصليبية سوى بعض الأفاريز والقواعد.
لا تنبع أهمية كنيسة القديس بورفيريوس من أنها ثالث أقدم كنيسة في العالم، مثلما يُعتقد، فثمة كنائس كثيرة في فلسطين وخارجها ربما تكون أقدم منها، غير أن أهميتها الفعلية تنبع من ارتباطها باسم قديس ذي مكانة كبرى في تاريخ الأرثوذوكسية، جسّد في سيرة حياته أمثولة للجهاد الكنسي ضد جيوب الوثنية الصامدة في الشرق خلال القرنين الرابع والخامس والميلاديين.
سيرة بورفيريوس
نحن مدينون إلى مرقص الشمّاس صاحب كتاب "حياة بورفيريوس"، وهو مخطوط في مئة وثلاث صفحات باليونانية، الذي حفظ لنا قصة حياة معلمه المولود في مدينة تسالونيك في اليونان الحالية عام347 والمتوفى عام 420 ميلادي. ومرقص هذا من مواليد مقاطعة آسيا في هضبة الأناضول في تركيا الحالية، وعمل خادما للأسقف بورفيريوس في غزة بين 395 إلى 420.
لا تنبع أهمية كنيسة القديس بورفيريوس من أنها ثالث أقدم كنيسة في العالم، مثلما يُعتقد، فثمة كنائس كثيرة في فلسطين وخارجها ربما تكون أقدم منها، غير أن أهميتها الفعلية تنبع من ارتباطها باسم قديس ذي مكانة كبرى في تاريخ الأرثوذوكسية
تكمن أهمية الكتاب في أنه يؤرخ بالتفصيل لنهاية الوثنية في بلاد الشام، حيث كانت غزة آخر معاقلها، على الرغم من الانتقادات الأكاديمية المعاصرة له، حيث غلب عليه، بحسب المنتقدين، الأسلوب التقليدي النمطي لسير النساك والقديسين المسيحيين. ومع ذلك لا ينكر هؤلاء أهميته في سرد وقائع ترد عرضا في الكتاب، تتضمن مظاهر حياة من يسمّون بالوثنيين اثناء صراعهم للبقاء مع إعلان الكنيسة حربها عليهم.
كانت غزة معقلا وثنيا مشهورا ومركز عبادة الإله مارنا (أي سيدنا بالنبطية)، وهو الإله المحلي الذي تمت توأمته مع الإله اليوناني الشهير زيوس خلال الحقبة الهلنستية، وغزة كانت واحدة من أهم المدن العربية في الحقب الكلاسيكي، وربما قبل ذلك، وشكلت أهم ميناء للمملكة النبطية خلال القرن الأول الميلادي. وكان عرب تلك الأزمنة متشبثين بمعبوداتهم، ولم يكن من السهل عليهم قبول الإيمان المسيحي بصيغته اليونانية البيزنطية، حيث وصفهم القديس جيروم (342- 420) بأنهم منبع الهرطقات.
في زمن بورفيريوس لم يكن عدد المسيحيين في غزة يتجاوز 280 مسيحيا، في حين كان عدد الوثنيين بعشرات الآلاف، ومع ذلك كان المسيحيون يريدون إغلاق معابد الوثنيين. ولذلك عيّن بورفيريوس أسقفا لغزة وهو في الخامسة والأربعين من عمره. وما إن وصل إلى المدينة حتى فاجأته مقاومة أهلها لإغلاق معابدهم، ويقول مرقص الشمّاس إن الوثنيين نسبوا الجفاف الذي حل بمدينتهم لبورفيريوس قائلين "لقد كشف لنا مارنا (إلهنا) أن أقدام بورفيريوس جلبت الحظ السيئ للمدينة".
وردا على ذلك، أرسل بورفيريوس شمّاسه ومؤرخه مرقص، إلى القسطنطينية عام 398 للحصول على أمر إمبراطوري بإغلاق المعابد الوثنية في غزة. وقد أرسل الامبراطور ضابطا يُدعى هيلاريوس مع جنوده لإغلاق لتنفيذ المهمة، لكن معبد الإله مارنا ظل مفتوحا لأن هيلاريوس تلقى رشوة كبير من المال، بحسب كاتب السيرة.
ونتيجة لذلك اضطر بورفيريوس للذهاب إلى القسطنطينية في شتاء عام 402 برفقة أسقف قيصرية فلسطين، حيث تمكنا من إقناع الإمبراطورة يودوكسيا، ذات النفوذ الواسع فيي بلاط الإمبراطور أركاديوس، للحصول منه على مرسوم يقضي بتدمير المعابد الوثنية في غزة.
إقناع الإمبراطورة
ويروي مرقص القصة على الشكل التالي: "وصل الأسقفان إلى القسطنطينية فاتصلا بالقدّيس يوحنا الذهبي الفم الذي أحسن استقبالها واهتم بأمرهما. وإذ اطّلع على القصد الذي أتيا من أجله رتّب من خلال رئيس التشريفات، أمانيتوس، لدى الإمبراطورة أن يُنقل خبر الأسقفين إليها ويوصلا بها. فلما أتيا إليها أبدت استعدادها لأن تعرض الأمر على الإمبراطور. وبالفعل عرضته فتلكّأ قليلا لأن غزّة من المدن التي تمدّ الدولة بأموال ضريبية يُعتدّ بها، فإذا ما قست السلطة على السكان في شأن هياكل الأوثان فإنهم سيتفرّقون ولسوف تصيب الدولة خسارةٌ ليست بقليلة من جراء ذلك".
ويضيف مرقص: "عادت الإمبراطورة واستدعت الأسقفين ونقلت إليهما تحفّظ الإمبراطور، لكنها أبدت أنها لن تترك الموضوع حتى تتمّمه بإذن الله. إذ ذاك قال لها بورفيريوس: إننا نرجو في المسيح، ابن الله، إن ساعدتنا في مسألتنا، أن يرزقك طفلا ذكرا سوف يحيا ويحكم وسوف تفرحين به سنين عديدة. هذا الكلام حرّك أحشاء الإمبراطورة بالأكثر فسألت صلاة الأسقفين ووعدت بتحقيق رغبتهما، وأضافت إنها سوف تُنشئ كنيسة في وسط غزّة، بإذن الله. يودوكسيا كانت في شهرها التاسع وساعة وضعها وشيكة. وانتظر الأسقفان بضعة أيام كانا خلالها يذهبان إلى القدّيس يوحنا الذهبي الفم وينعمان بكلامه الإلهي الذي كان أحلى من العسل".
ويقول: "أخيرا وضعت يودوكسيا مولودا ذكرا أسموه ثيودوسيوس، على اسم جدّه، وقد حُسب إمبراطورا من ساعة ولادته ولُفَّ بالأرجوان. ثم أن الأسقفين رفعا عريضة بناء لإيعاز الإمبراطورة. هذه العريضة استقرّت بين يدي من حمل الإمبراطور الصغير في يوم عمادته، واعتُبر أن ثيودوسيوس الصغير وافق على ما ورد فيها بسبب حركة أبداها من نحوها. وكان ذلك على مرأى من الإمبراطور والإمبراطورة. فلما فاتحت يودوكسيا الإمبراطور الوالد من جديد بأمر الأسقفين والعريضة التي رفعاها وافق عليها بعد لأي".
أوكل أمر تنفيذ قرار تدمير المعابد الوثنية الثمانية للمبعوث الإمبراطوري الخاص سينجيوس، الذي قام بالمهمة في العام نفسه، فدمّر معابد أفروديت، وهيكات، والشمس، وأبولو، وكور، وتايكي، والهيرويون، ومعبد مارنا أهم المعابد وأكبرها. ويروي مرقص أن الطبقة الرفيعة من مجتمع غزة فرّت من المدينة، فقام الجنود بالاستيلاء على المنازل ودمروا الأصنام وأحرقوا المكتبات الخاصة فيها على اعتبار أنها كتب سحر.
تدمير المعبد الكبير
أحرق معبد مارنا المنسوب للإمبراطور هدريان(76-138)بالقار والكبريت والدهون، واستمرت النار مشتعلة فيه عدة أيام. وكنوع من الانتقام والتشفي أعيد استخدام حجارة المعبد في رصف الشوارع، بحسب كتاب "حياة بورفيريوس".
عيّن بورفيريوس أسقفا لغزة وهو في الخامسة والأربعين من عمره. وما إن وصل إلى المدينة حتى فاجأته مقاومة أهلها لإغلاق معابدهم، ويقول مرقص الشمّاس إن الوثنيين نسبوا الجفاف الذي حل بمدينتهم لبورفيريوس
وقد وصف الكتاب عملية الحرق كما يلي: "احتار المؤمنون والجند كيف يدكّونه لأنه كانت فيه ممرّات سرّية ومخابئ والكّهان سدّوا الأبواب بحجارة ضخمة. لذا دعا بورفيريوس إلى الصوم والصلاة عسى الرب الإله يكشف كيفية تطهير المكان. أخيرا، أثناء القداس الإلهي المقام مساء، تكلّم الرب يسوع بولد في السابعة من عمره وعيَّن بالتفصيل كيفية إحراق الهيكل الداخلي لأن نجاسات كثيرة مورست فيه، لاسيما تقديم ضحايا بشريّة. أما الهيكل الخارجي والساحة فُيتركان. ثم بعد تطهير المكان يُصار إلى بناء كنيسة. وقد تكلّم الولد باللغة السريانية. ولما أخذ الأسقف الولد على حدة وسأله من أين جاء بالكلام الذي تفوّه به لم يردّ. وبعدما ألحّ عليه أعاد الكلام بعينه ولكن باللغة اليونانية مع أنه لم يكن يعرف اليونانية لا هو ولا أمّه. وكما أوعز الصبي هكذا كان".
العثور على التمثال الضخم
كان يمكن لهذا الوصف أن يعد من باب المبالغة، بحسب منتقدي الكتاب، لولا العثور في السادس من شهر سبتمبر/ أيلول 1879 في تل العجول جنوبي مدينة غزة على تمثال ضخم للإله زيوس- مارنا مدفونا تحت الأرض أكد بشكل أو بآخر الرواية عن هذه المعبد الضخم.
وقد وصف مراسل جريدة "لسان الحال" البيروتية في غزة واقعة الاكتشاف كما يلي: "كان بعض الحجارين الذين يقلعون الحجارة في مكان يسمى وادي غزة، يبعد عن البلد نحو ساعة ونصف الساعة، إلى الجهة الغربية، وجد صنما ذا هيئة هائلة، فمن قمة رأسه إلى أسفل لحيته أربعة أشبار، ومن أذنه اليمنى إلى أذنه اليسرى ثلاثة أشبار، ومن منبت الشعر فوق جبهته إلى فمه شبر ونصف الشبر، ومن الكتف إلى الكتب ستة أشبار، ومن قمة رأسه إلى حقويه تسعة أشبار، وغلظ رقبته ستة أشبار، ومركزه في جرن واطي الجوانب، ومركوز على حجر مربع. والصنم والجرن والحجر الذي أسفله قطعة واحدة من الرخام الأبيض، وطوله كله من قمة رأسه إلى أسفل الجرن نحو عشرين شبرا مصنوع بشكل يظهر أن شعره كان منسدلا على كتفه".
ويضيف المراسل: "لحيته طويلة تدل على أنه شيخ مسن، أما يده اليمنى فمكسورة من نصفها، ويده اليسرى غير ظاهرة حيث موضوع على كتفه نظير جلباب. ولم يظهر أثر لكتابة فيه مطلقا، وعلى ما يظن فهو أحد آلهة الفلسطينيين. والموضع الذي وجد فيه لا يظن انه موضعه الأصلي، والسبب وجوده الآن مدفونا على تلة رمل قرب البحر. وقد صار إعلام المتصرفية بذلك فارسلت بعض أنفار العسكرية لحراسته خوفا عليه من العطب لا من السرقة، فإنه لا ينقص عن العشرين قنطارا وزنا".
وهذا التمثال يقبع منذ ذلك التاريخ في متحف إسطنبول، بعد أن نقل إلى عاصمة السلطنة بأمر من السلطان عبد الحميد. ويعد الآن أكبر تمثال في المتحف.
يجادل منتقدو الحقبة البيزنطية بأن ما فعله الأسقف بورفيريوس في غزة لا يقل وحشية عما فعله الأسقف كيرليس السكندري بمعابد الإسكندرية ومكتبتها. ولذلك يعدّ كتاب "حياة بورفيريوس"، رغم الملاحظات عليه، أحد الأدلة على العنف الذي رافق نشر المسيحية خلال الحقبة البيزنطية، حيث حفل الكتاب بوصف اضطرار الغزيين لقبول الدين المسيحي بعد أن رأوا مصير معابدهم وهياكلهم ومن قاوموا الحملة.