أكتبُ لنفسي! هذا ما يردّدهُ استثناء كلازمة أقليّة من الكُتاب، إمّا عن تطرُّف خالص الفردانية أو عن جنون طاعن في العظمة، أو عن محض علاقة وجودية تنتصر للداخل (الذات) أكثر ما تنتصر للخارج (الآخر)،وفي كلّ الأحوال ثمّة قارئ يحضر بصورة من الصور في ضباب مطبخ الكتابة لكلّ هذه الفرضيّات العدميّة التي تقدّم نفسها بهذا النزوع الراديكالي، مُتماهية مع الفعل المُبطّن للكتابة دونما اكتراث مُسبق أن تفيض عن فوهة كأسها إلى عموم القراءة (بحسب زعم هؤلاء الكُتاب طبعا).
ماذا يعني أن يكتب هؤلاء لأنفسهم؟
نرجسية تدور في فلك الذّاتية المُطبقة؟ تمجيد الكتابة كسرّ من أسرار الكينونة المغلقة على نفسها؟ الكتابة قَدَرٌ شخصي بالمقام الأول ولا يهم ما يترتب عنها في سيرورة ما ستؤول إليه بعد تحقّق أثرها الفردي؟ الكتابة مُطابقة كُليّة مع الذات في غياب كلّي للآخر؟ الكتابة أنا ولا يهمّ أنتَ وأنتم أو هُم؟
هذا جانبٌ مريب من المسألة الذي يستدعيه التساؤل، وتمعُّنا في التوصيف الذي يتوخّى الدقة المطلوبة، ثمة جانب ثان أيضا عَلَنُه ردٌّ، ومضمرُه تساؤل مُضاعف:
لا ذاتية مغالية في الأمر. لا نرجسية فائضة ولا انغلاق مُطبق. لكي تكون الكتابة كتابة بالفعل، يلزمها أن تكون مخلصة لنفسها بالمعنى الذي يكون فيه استغوارُ الداخل والحفر في طبقاته المجهولة أمينا لكلّ ما هو جوّاني صرف، مستقلّا عن سلطة الخارج. لا كتابة تحترم الآخر إن لم تتفرّد بالغوص كلّيا في مجمل إطلاقية الأنا، الأنا وفق خوارزميات الذات كذاكرة خاصة، لا كشعور محض، منطقة مأهولة بقلق الكاتب كتجربة إنسانية تخصّه.
فضيلة الحرية التي تتماهى معها الكتابة تقتضي أن تكون القراءة في أبدع قِيمها جمالية بالنظر إلى تقدير فعلها المنتج وليس كمستهلك، إذ ما عساه يكون القارئ إلا كاتبا مضاعفا، وعلى هذا النحو ما عساها تكون القراءة إلا كتابة مضاعفة
وفي الضفة الثالثة للمسألة: ما عساها الكتابة التي تمجّد فعل الأثر الذاتي كممارسة فردية غامضة تختصّ بها الذات أوّلا وأخيرا، ولا يعنيها مُسبقا الآخر، قارئا كان أو مؤسسة أو كل ما يحسب على السلطة الخارجية. في المبتدأ والخبر هي كتابة بقدر ما تنحاز لصرفية الذات، هي بالمقابل تنحاز لصرفية الآخر ضمنيّا، كيف؟
إنها كتابة لا انتهازية، غير مشروطة، متحرّرة من الإكراهية والإلزامية، ولا تكترث بمشاعية الإرضاء وخلق بهرجة التوافق على أثرها، لا تقدّم تنازلات البتّة، وبذلك هي لا تحترم نفسها وحسب، بل تحترم الآخر على نحو مزدوج وأكثر.
هل هذا يعني أنّ كل كتابة تقدّم نفسها كعمل يتوجّه إلى القارئ بشكل مسبق، أو يجعل القارئ ضمن أولويات اهتمامها بدءا ومنتهى، مجرد كتابة غير خالصة!
ليس بالضرورة أن يكون هذا النزوع أيضا مُناقِضا لجدارة وأحقيّة صدق الكتابة، وبصورة تامّة فوق ذلك، لا من باب أن الكتابة تعاقد بين مؤلف وقارئ، ولا من زاوية أن الكتابة محض علاقة أكيدة بين مرسل ومرسل إليه، ولا من منظور أن الكتابة تقليد عتيد بين مبدع منتج ومتلق، بل من منطلق إبداع يضع القارئ في صلب وجدان إبداعيته، لا يأتمر بثقل حضوره بقدر ما يحترم وجود طيفه كقيمة اعتبارية غير ملغية.
لكنّ الموبوء من الكتابة والمبتذل حدّ الصفاقة، أن يلغي الكاتب ذاته من أجل الآخر، أن يرتكب حماقةَ كتابة أثر وفق الطلب، وفق المزاج العام، وفق ما يستهلكه الجمهور، وفق ما يرضي سيادة الذوق المستشري، إذ هو ليس يقدّم نفسه قربانا كيما يكون صوتا لهؤلاء، أو عرّابا لتفاصيل حياتهم اليومية، ترجمانا لواقعهم بملء حذافيره وعارم تناقضاته، إنشاء وتقريرا، أو بلاغة ومجازا عن سبق نية استرضائهم بالصورة التي يبتغون كسلطة تفرض شروطها عليه، لا العكس.
في حين أنّ الكتابة محض فعل تحرّر من كلّ شرطيّات السلطة التي تشتبك معها وفيها، سواء كانت قراءة أو لغة أو غيرهما. وفضيلة الحرية التي تتماهى معها الكتابة تقتضي أن تكون القراءة في أبدع قِيمها جمالية بالنظر إلى تقدير فعلها المنتج وليس كمستهلك، إذ ما عساه يكون القارئ إلا كاتبا مضاعفا، وعلى هذا النحو ما عساها تكون القراءة إلا كتابة مضاعفة.
على هذا النحو من يكتب لنفسه هو لا يكتب لذاته ككاتب بل كقارئ، وأن يكون الكاتب قارئا في الوقت الذي يكتب فيه، كيفما اعتقد أنه هو نفسه قارئا مختصا بما يكتبه، هو ينتصر للقارئ عامّة، لا القارئ الذي يشبهه بالضرورة وإنما القارئ الذي يفوقه ذكاء ككاتب، أو يفوق ذكاء ما كتبه، كيف لا والقارئ ليس من يستهلك، ليس من يتذوّق ويؤوّل وحسب، بل هو الذي خُلقتْ له بياضات وفراغات كلّ النصوص كيما يكون هو أولا. بياضات وفراغات لا علم للكاتب بها أصلا، وهي بياضات وفراغات منذورة للقارئ وحده، يصنع منها نصوصا مغايرة ومتشعبة ولانهائية لم تخطر على بال مُؤلِّفها ومؤلَّفه معا.
لا مفاضلة هنا بين كاتب وقارئ في محكّ كل نص، إنهما كيمياء واحدة، يتلاعبان بالأدوار، وبالقدر الذي ينفي هذا ذاك، يتضاعف وجود ذاك مقابل هذا والعكس، وبذا من يكتب لنفسه من هؤلاء، ليس محض ادعاء بالمطلق، ليست نرجسيّة متضخمة أو جوفاء، هي كذلك انحيازٌ لقيمة القارئ، لفضيلة القراءة، فما يبدو في المُعلن إعداما لهما (القارئ/ القراءة) أو عدم اكتراث، هو ضمنيا تأكيدٌ دامغ لوجودهما النوعي من منطلق يكون فيه الجسر إلى الخارج عبر الداخل دونما تنازلات، إذ أن العلاقة الذكية بين الاثنين تحتكم إلى قيمة جمالية صرفة تجافي كل ما هو انتهازي وتُناقِض كل ما هو ملّفق.