قادتني يوما الأعمال النثرية الأولى للروائي الروسي مكسيم غوركي، إلى زيارة مدينة روسية تدعى "نيزهجني نوفغورود"، وعلى الرغم أن المدينة اليوم رياضية وتاريخية أنيقة تطل على نهر فولغا الذييقسمها إلى قسمين، لكنني كقارئة التزمت بالسياحة الأدبية، بالذهاب إلى ذاكرته حيث أطراف المدينة، والمناطق الشعبية الأولى، بالإحساس بالمكان بعد قراءة كتبه، ومن ثم تحليل الفضاء الفني لضاحيته القديمة، وإظهار تأثير البيئة فيها عليه من خلال الماضي، كل هذا بعد التدقيق على الكلمات الافتتاحية لغوركي، مثل: متشرد، مدينة، ضواحي، جاسوس، شارع، مأوى، إنسان من عدم... حيث كانت هذه الكلمات تتكرر في أعمال غوركي الذي أصبح رائدا في الأدب، لأستبين صورة الشارع منذ الوصول، في قصصه حين كان شابا، والذي بدأ من هذا الواقع أمامي، وأتعرف على تكوينه ككاتب ينتمي إلى هذه المدينة منذ أعماله الأولى، والأهم التعرف على تضاريس الجزء السفلي والمتعب من مسقط رأسه.
كنت أمشي بجوار المستودعات والمراسي التي لا نهاية لها، وبعدها إلى شوارع ضيقة تصطف على جانبيها مساكن شعبية، ومحلات وحانات ومساكن، ولا بد أنها كانت مساكن المتشردين كما وصف في قصصه، حيث عاش هنا مع جدته التي ربته بعد وفاة أبيه، فكان يكتب عنها الكثير في مقالاته ومدى حنانها أثناء سردها القصص له قبل نومه، وفي النهار تقوم بجمع الصدقات بنفسها لتوزعها على المشرّدين واللصوص والبغايا والسكارى... ولم يجد مكسيم غوركي حرجا في ذكرهم، فبرؤيته وحسب وصفه "هُم المنسيون من حقوقهم".
وصف غوركي بدقة هذا الشارع وبالتحديد مدخله، من جدران رطبة إلى الأسطح المتسرّبة بنباتاتها الخضراء المتربة من أشجار الصفصاف، وها هي النباتات يابسة بعد مرور أكثر من قرنين على القصة
عبرنا شارع "موكرايا" الذي يمتد على طول وادٍ قُرب نهر فولغا الجاري، ليقول المرشد السياحي: "في بعض شهور السنة يتدفق النهر إلى السطح، ويغلق الأنبوب ويتسرب الماء ويصبح الشارع بلا حل". فذكرت له حكاية مكسيم غوركي، جَدَتهِ التي كانت تعيش هنا، وكانا يعانيان من هذا التسرب في برد الشتاء، ويبدو أنه لا يعلم كثيرا عن الأمر، سوى بعض المعلومات البسيطة عن المؤلف.
لم أرغب في إرباكه، فراقبتُ من الشارع ذاته الأقبية والمنازل القديمة، وكأنني سمعت صدى صوت التاجر "بيتونيكوف" و"زوجات أورلوف"... فأين منزلهم يا ترى، ذلك الذي يحتوي على غرفة مستطيلة كبيرة ومظلمة وذات سقف مقبب وموقد روسي كبير وفيها نافذتان تطلان على الفناء، بالكاد يصلها الضوء، ولا بد أن الغرفة كانت رطبة، صماء وميتة، مع ذلك الدرج المنحني الشديد الانحدار والمتعفن، فلم يكن آمنا للمشي عليه.... حتى قاطعني المرشد بشرحه عن تاريخ تلك المباني. وسألني كيف وجدت مكسيم غوركي؟
ذكرت له شخصية نوح صانع الأحذية الذي كان يضرب زوجته بقسوة شديدة، لعله كان أمام هذا البيت، وحكيت له عن المعارك الزوجية التي كانت نوعا من الترفيه لهؤلاء الفقراء، وأعتقد أن ساحة هذا المنزل أمامنا، وحسب وصفه، بأن من يعيش هنا يصبح بلا هدف، خاصة مع قصة "زوجات أورلوف" وفكرة وجود نوع من الفم الذي يبتلع ببطء شديد، ومصير عامة الناس الفقراء، وهو تعبير عن اليأس التام وحتمية موت الناس بفتور وتهاون.
وصف غوركي بدقة هذا الشارع وبالتحديد مدخله، من جدران رطبة إلى الأسطح المتسرّبة بنباتاتها الخضراء المتربة من أشجار الصفصاف، وها هي النباتات يابسة بعد مرور أكثر من قرنين على القصة.
تذكرت أن غوركي استخدم كلمة بيوت، بشكل تحقيري، مشيرا إلى ضعفها وأنها غير صالحة للعيش فيها. لكنه في المقابل كان يصف المنازل الجميلة بأشجارها الوارفة الخضراء هناك في أعلى الجبل المطل على هذا الشارع.
نظرنا سويا باتجاه المرتفع، فوجدنا البيوت كما وصفها حجرية جميلة، وأبراج أجراس الكنائس وصلبان الذهب، وكان يستخدم في تلك الناحية مفردات راقية، مثل خصبة، بكل فخر، مبهر، راقية.
الغريب في الأمر أنه كتب في هذا الشارع قصة اللص "تشيلكاش"، ولعله من الشارع الخلفي له، لأتحول بدوري إلى المرشد، وأصحبه إلى الخلف حيث وجدت النوافذ مليئة بالشقوق كما وصفها غوركي، بالإضافة إلى البقع الداكنة للجص المتساقط، والباب شبه متساقط، والمنزل لم يعد مؤهلا للسكن. كان بودي الدخول لأرى الملجأ في الداخل، أو بمعنى أصح الحفرة الطويلة والمظلمة لعلمي أن أَسِرّة النوم الأربعة لا وجود لها الآن، فقال لي: "هذا الجو غير صالح للدخول من فضلك، كما أن البيوت تغيرت، ورممت، ربما تكونين مخطئة، فبعض المنازل جرفت وسويت بالأرض".
صار المرشد يكمل معي خيال القراءة بتاريخ الواقع، فأكدت له أن الضاحية الرتيبة هذه ما زالت تعيش أسفل الجبل، وفي حالة من الفوضى حتى اليوم، ولا بديل لها، قد خرج منها غوركي بمسرحياته الحزينة مثل "الحضيض" و"الأعداء" وسرد طفولته المعروفة "في طفولتي" وغيرها من قصص قمت بالتنقيب عنها في ضاحية ذات رائحة ثقيلة. ألا تتفق معي أنها ما زالت ثقيلة؟
كان حوارا جيدا بيننا ونحن نتجسس معا على إحساس المناطق الخفية للنثريات الأدبية، كما كان استثمارا في سياحة البحث عن روح الكاتب ومكان سيرته، وهي من السياحات الأدبية التي تفتح الأسئلة التخيلية أمام الرؤى بحدس المكان، منذ تأسيسه بشرط وجوده.