إجابة صادمة
وقف البطريرك صفرونيوس عند باب كنيسة القيامة من أجل تسليم مفاتيح المدينة.. وقف منتظرا في استقبال القائد المنتصر الذي جاء كي يملي شروطه وقوانينه – ربما هكذا كان يدور في خلد البطريرك- لكن حين حضر الوقت الصلاة أراد عمر أن يصلي، فأشار عليه البطريرك أن يصلي في الكنيسة، فامتنع عمر وقال: "أخشى إن صليت فيها أن يغلبكم المسلمون عليها، ويقولون هنا صلى أمير المؤمنين". كانت هذه إجابة صادمة جدا، في مشهد ليس له نظير ولا مثيل في قيم ومبادئ ذلك الزمان، إنه رجل جاء ليضع ميثاقا حضاريا يحمي حقوق الديانات الأخرى، ويحفظ أماكن عبادتهم، بل أبعد من ذلك يمتنع عن القيام بأي عمل قد يؤدي في المستقبل إلى الانتقاص من حقوق هذه الديانة أو تلك.
يشير إلى هذه الواقعة التاريخية ابن خلدون في تاريخه، حيث يقول: "دخل عمر بن الخطاب بيت المقدس، وجاء كنيسة القيامة فجلس في صحنها، وحان وقت الصلاة فقال للبترك أريد الصلاة. فقال له: صل موضعك. فامتنع وصلى على الدرجة التي على باب الكنيسة منفردا. فلما قضى صلاته قال: للبترك لو صليت داخل الكنيسة أخذها المسلمون بعدي، وقالوا هنا صلى عمر. وكتب لهم ألا يجمع على الدرجة للصلاة ولا يؤذن عليها. ثم قال للبترك: أرني موضعا أبنى فيه مسجدا فقال على الصخرة التي كلم الله عليها يعقوب، ووجد عليها ردما كثيرا فشرع في إزالته وتناوله بيده يرفعه في ثوبه واقتدى به المسلمون كافة فزال لحينه وأمر ببناء المسجد". يقول ابن كثير: "الروم جعلوا الصخرة مزبلة لأنها قبلة اليهود، حتى أن المرأة كانت ترسل خرقة حيضتها من داخل الحوز لتلقى في الصخرة، وذلك مكافأة لما كانت اليهود عاملت به القمامة وهي المكان الذي كانت اليهود صلبوا فيه المصلوب، فجعلوا يلقون على قبره القمامة فلأجل ذلك سمي ذلك الموضع القمامة، وانسحب هذا الاسم على الكنيسة التي بناها النصارى هنالك". فنادى عمر في الناس ودعاهم إلى تنظيف ذلك المكان بعد أن كان محلا لإلقاء القاذورات، نتيجة للصراع الديني الطويل بين المسيحية واليهودية، في مشهد رمزي عميق الدلالة مفاده أن رسالة الإسلام الأصيلة في إزالة الشوائب والحواجز بين الناس، وتأسيس الاحترام المتبادل بينهم مهما اختلفت دياناتهم من أجل إقامة السلم الاجتماعي.
وثيقة حضارية مبكرة
هنا أعلن عمر عن كتابه إلى أهل بيت المقدس، الكتاب المشهور باسم "العهدة العمرية" التي تعد وثيقة حضارية مبكرة في تاريخ الإنسانية في تأكيد مفاهيم حقوق الإنسان، وحماية أماكن العبادة والمقدسات، حيث ورد نصها عند الطبري في تاريخه:
"بسم الله الرحمن الرحيم.. هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان، أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم، ولكنائسهم وصلبانهم، وسقيمها وبريئها وسائر ملتها، أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم، ولا ينتقص منها ولا من حيزها، ولا من صليبهم، ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود، وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطي أهل المدائن، وعليهم أن يخرجوا منها الروم واللصوت، فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم، ومن أقام منهم فهو آمن، وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم ويخلي بيعهم وصلبهم فإنهم آمنون على أنفسهم وعلى بيعهم وصلبهم، حتى يبلغوا مأمنهم، ومن كان بها من أهل الأرض قبل مقتل فلان، فمن شاء منهم قعدوا عليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن شاء سار مع الروم، ومن شاء رجع إلى أهله فإنه لا يؤخذ منهم شيء حتى يحصد حصادهم، وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية. شهد على ذلك خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاوية بن أبي سفيان وكتب وحضر سنة خمس عشرة".
يعلق البطريرك السرياني ميخائيل الكبير على هذا المشهد قائلا: "لقد كان عمر بن الخطاب موضع الثناء عندنا، والحق يقال: إنه كان عادلا نزيها، لم يأخذ شيئا لنفسه حتى ولا ما يغير به ثيابه البسيطة، كان متواضعا جدا، الأرض مقعده وسريره، عفيف لا يأخذ شيئا من أحد".
الفاروق المنقذ
لهذا ليس بمستغرب حين نجد من الشواهد التاريخية التي تؤكد أن السريان المسيحيين في الشام هم أول من أطلق لقب "الفاروق" على الخليفة عمر بن الخطاب، ويعني ذلك "المنقذ"، حيث منحوه اللقب الذي كان يُعرف به السيد المسيح، وفي ذلك يقول المؤرخ ميخائيل الكبير: "فإن إله النقمات لما رأى عتو الروم، بعث أبناء إسماعيل كي يحصّل لنا النجاة بواسطتهم".