بمناسبة الذكرى الثلاثين لتوقيع اتفاقات أوسلو، نشرت “المجلة” عدة تقييمات ومقالات عن تأثير هذه الاتفاقات أو تداعياتها على الوضع الفلسطيني، وهي كثيرة، ويمكن العودة إليها لفهم الأبعاد الكارثية لاتفاقات أوسلو على الوضع الفلسطيني. مقابل ذلك لم تنشر تقييمات كافية لما حصل للإسرائيليين، وفي إسرائيل، منذ أوسلو. فبعد ثلاثة عقود تغير كل شيء وجاءت حرب غزة لتؤكد ذلك.
إجمالا قد تكون التغييرات بفعل عوامل اجتماعية واقتصادية وسياسية، وقد تكون كذلك بفعل تقييم وإعادة تقييم أدارتها مؤسسات التفكير الإسرائيلية، منها المعروفة والمكشوفة ومنها السرية، والتي تعمل في خدمة المؤسسات العسكرية والسياسية بهدوء وخلف الكواليس.
عموما ومنذ توقيع حكومة إسحق رابين على ما نعرفه باتفاقات أوسلو عام 1993، جرت تغييرات جدية في إسرائيل، لعل أهمها وأكثرها تأثيرا، داخليا وخارجيا، مسألة صعود اليمين إلى وضعية “الكتلة المسيطرة” (Dominant Bloc) وانحسار قوة اليسار الإسرائيلي، حتى اقترابه من الانقراض. فماذا بالضبط حصل في إسرائيل؟ ولماذا تطور الوضع السياسي الإسرائيلي إلى هنا؟ لذا سأتطرق هنا إلى ثلاثة جوانب، أولا، ماذا نعني بصعود اليمين، أو ما التجليات المركزية لصعود اليمين؟ وثانيا، ما عوامل صعود اليمين؟ وثالثا، ما التداعيات المركزية، داخليا وخارجيا، لصعود اليمين الإسرائيلي؟
في السياق الإسرائيلي يتركز اليمين في مجمل القوى التي تعادي أي تصور منطقي لحقوق فلسطينية معقولة في فلسطين التاريخية، وتعلن جهارا رفضها لإقامة دولة فلسطينية وتتطلع للسيطرة على ما تسميه “أرض إسرائيل”، وعلى استعداد واضح لاستمرار المجابهة العسكرية والسياسية مع الشعب الفلسطيني إلى حين إذعانه لها ولسيطرتها. أقصد أن اليمين في إسرائيل لا يعني أبدا ما هو متعارف عليه بالالتزام بالقيم المحافظة، ودعم الاقتصاد المحافظ والمسيطر عليه مركزيا من قبل الدولة. بهذا المعنى نحن نتحدث تحديدا عما يسمى “اليمين الجديد” الذي نشأ في أوروبا خلال العقود الأخيرة ومشروعه الأساس هو معاداة الأقليات والمهاجرين والمختلفين عن الغالبية. في السياق الإسرائيلي “المختلفون” هم الفلسطينيون والعرب، وبعض مهاجري العمل من أفريقيا وآسيا.
تجلى صعود اليمين في أربعة تطورات سياسية
أولا: صعود اليمين بقيادة الليكود إلى وضعية “الكتلة المسيطرة” سياسيا، فمركبات اليمين اليوم، والتي كان جزء مهم منها حليفا تاريخيا لحزب العمل، هي القوة المسيطرة على إمكانيات تشكيل الحكومات في إسرائيل، وتتقدم بثقة للسيطرة على مفاصل الحياة الأساسية في إسرائيل. تاريخيا كان الليكود جزءا من المعارضة الثابتة (تقريبا) لحكم الماباي والحركة العمالية في إسرائيل، وخلال “الجمهورية الأولى” التي حكمت في إسرائيل ويشار إليها من خلال شخصية بن غوريون ورفاقه. كان الليكود قوة سياسية محدودة، ولم يستطع النفاذ جديا إلى مراكز القرار والوزارات المركزية.
بعد انقلاب 1977 الذي رافق الانتخابات العامة في ذلك العام، وصعود الليكود للحكم، تشكلت “الجمهورية الثانية” ويرمز إليها بشخصية مناحيم بيغن. وخلال الفترة التي امتدت حتى نهاية القرن الماضي، وخلال “الجمهورية الثانية”، تعاقبت وتبادلت على الحكم والحكومات وبشكل تتابعي، تلك التي شكلها الليكود، وتلك التي كان في مركزها حزب العمل، أو الاثنان معا، من خلال تشكيل حكومات “الوحدة الوطنية”، أي إنه خلال الفترة الممتدة منذ الانقلاب عام 1977 وحتى بداية سنوات الألفين، لم يستطع الليكود بسط سيطرته التامة على الحكم، وبقي حزب العمل وأعوانه يشكلون تحديا مركزيا لحكم الليكود. وكما هو معروف، فإن اليسار الإسرائيلي وصل للحكم بعد انتخابات مايو/أيار 1992 وتوصل إلى اتفاق أوسلو (1993) واعترف بمنظمة التحرير، وهي تغييرات جدية بالنسبة للإسرائيليين، ولا زال اليمين ينعى تلك الفترة وآثارها، حتى يومنا هذا.