يُظهر الفيلم الوثائقي الفرنسي "يلّا غزّة" (Yallah Gazza) انحيازه للفلسطينيين منذ أوّل صورة إلى آخر كلمة، وهو إذ أنتج قبل الأحداث الأخيرة فإن عرضه الثلاثاء قبل الماضي في باريس بحضور ثلاثة من صنّاعه كان مناسبة لاستذكار حال أبناء غزّة مع الحصار والحروب السابقة.
الفيلم الذي يبدأ بأغنية "يا طير يا طاير على فلسطين، بالخير صبّحها ومسّيها" حرص مخرجه رولاند نورييه Roland على أن يقدّم للمشاهد الأوروبي، على وجه الخصوص، ما خفي ويخفى عن غزّة، إذ صوّر آثار الحروب الاسرائيلية السابقة عليها متتبعا حياة البسطاء وسط الخراب، والذين يأملون العيش في سلام كجميع الناس على هذه الأرض.
يبدأ الفيلم بالحديث عن تاريخ غزّة وعلاقتها بالمحيط العربي من خلال الهجرات القديمة وصولا إلى حالها بعد نكبة 1948 وقدوم اللاجئين إليها من مختلف المدن الفلسطينية إثر تهجير سلطات الدولة العبرية الناشئة لهم، ومن ثم سكنهم في المخيّمات وأبرزها مخيّم النصيرات، ليشهدوا التحولات التي صاحبت الحروب التالية وسيطرة جيش الاحتلال على غزّة. حيث بقي اللاجئون، مع مرور السنوات، يحلمون بالعودة إلى مدنهم وقراهم ويورثون مفاتيح بيوتهم لأولادهم، في صورة تبعث الأمل لدى الفلسطينيين مع أنّها صارت مكرّرة في أكثر من فيلم.
في تسجيلات بانورامية، يتناول الفيلم الكثير من الجوانب الاجتماعية في غزّة فنرى فيه الفلاح الذي يشكو الحصار على منتوجه الزراعي وعدم أمنه، والصيّاد الذي يُسمح له فقط أن يبقى في حدود بحريّة لا تهبه سوى الأسماك الصغيرة غير المربحة، متسائلا لماذا لا نعيش كالآخرين.
بقي اللاجئون، مع مرور السنوات، يحلمون بالعودة إلى مدنهم وقراهم ويورثون مفاتيح بيوتهم لأولادهم، في صورة تبعث الأمل لدى الفلسطينيين
وتستحضر إشكاليات الحفاظ على الهويّة الفلسطينية من خلال التعليم في مدارس "الأونروا" والتي كانت في السابق تدرِّس بعض جوانب التاريخ الفلسطيني للطلّاب بصفتهم لاجئين سيعودون إلى ديارهم يوما ما، لكنّها صارت تتلقى اعتراضات من منظمات إسرائيلية بدعوى الحياد، صار من الصعب فيها دراسة جغرافية فلسطين وتاريخها، بل وذكر حتى اسمها.
وأكثر ما لوحظ في الفيلم هو تصويره لعلاقة صداقة حميمة بين مسيحي ومسلم فنرى الأول يقود صديقه الأعمى إلى المسجد لأداء الصلاة ويظلّ ينتظره حتى ينتهي منها. إضافة إلى آراء رجال دين تنفي تلك الصورة المكرّسة عن اضطهاد "حماس" للمخالفين لها، على الرغم من تصرفات صاحبت السنوات الأولى لاستيلاء هذه الجماعة على قطاع غزّة عُرفت بنزعتها المتطرفة. وفي هذا الجانب قدّم ناشطون إسرائيليون شهاداتهم ورفضهم للاحتلال أبرزهم طيّار مروحية في الجيش الإسرائيلي صار يعيش في المجر.
المتحدثون في الفيلم يترقبون خطوات مهمة من قبل محكمة العدل الدولية بعد أن رفعت إليها شكاوى متعلّقة بجرائم حرب واعتداءات ضد الفلسطينيين. فهناك فتاة تمشي برجل واحدة ولم تيأس من المطالبة بتعويضها عن ساقها التي بترت بقصف إسرائيلي، فبدا الحاحها على التعويض كأنّه كشف للجريمة وإن لم يُعترف بها.
هذه الفتاة ليست الوحيدة، فهناك فريق لكرة القدم تكّون من فتيات بُترت سيقانهن في حروب سابقة. مع هذا ارتبطن بالأرض، على الرغم من معارضة المحافظين، عبر ركلات أقدامهن الوحيدة، مثلهن مثل ضربات أقدام راقصي الدبكة الغاضبة والمتحدّية، والتي يظهرها الفيلم وسط خرائب شوارع وأنقاض عمارات.
والرقصة هنا أحد أعمدة الفيلم، وقد أدّاها فريق من الشباب الفلسطيني بصحبة العروض التمهيدية للفيلم في أكثر من عشر مدن فرنسية، بتنظيم من المخرج نفسه وجمعية التضامن الفرنسي الفلسطيني والاتحاد اليهودي الفرنسي للسلام. وذلك قبل عرضه في سينما (Espace Saint Michel) المعروفة باهتمامها بعرض الأفلام اليسارية والجدلية من كلّ بلدان العالم بما فيها الأفلام الوثائقية والتسجيلية القديمة. على أن يبدأ عرضه الرسمي يوم 8 نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل وسط تخوفات من منعه بعد أن أثيرت الكثير من النقاشات والمواقف حول الأحداث الأخيرة.إلاّ أن المخرج لم يأبه بارتباك الآراء حول ما حدث أخيرا، فهو يرى "إن فلسطين هي أكبر قضيّة ظُلم في العالم". ولهذا سبق وأن أنجز فيلما وثائقيا بعنوان "الدبابة وشجرة الزيتون" سرد فيه تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي من خلال مقابلات مع مؤرخين وسياسيين وشهود برؤية مختلفة تساعد المشاهد على فهم جذور الصراع وتحولاته. وقد كرّس في ختام فيلمه الثاني مقولة إن "الحق لا يوهب وإنّما يؤخذ" من خلال ألسنة الأشخاص الذين استضافهم في فيلمه.
هذا الفيلم، إلى جانب أفلام أخرى لا تبدو بمنحاها هذا وجهة نظر فردية تجاه غزّة وفلسطين عامة وإنّما تعبّر عن رؤية متجذرة ومتنامية ترفض الدعاية الإسرائيلية المكرّسة عن الفلسطينيين باعتبارهم عابرين في أرض ليست لهم
هذا الفيلم، إلى جانب أفلام أخرى لا تبدو بمنحاها هذا وجهة نظر فردية تجاه غزّة وفلسطين عامة وإنّما تعبّر عن رؤية متجذرة ومتنامية ترفض الدعاية الإسرائيلية المكرّسة عن الفلسطينيين باعتبارهم عابرين في أرض ليست لهم.
ويمثّل عرضه في هذه الأيّام موقفا لصانعيه ولدار السينما، إذ أنّ الكثير من المؤسسات الثقافية الفرنسية يخشى الدخول في جدال حول الأحداث الأخيرة، أو إعلان موقفها بشكل واضح مما جرى ويجري، كما هو حال معهد العالم العربي في باريس (وهي مؤسسة فرنسية عربية) والذي أعلن تأجيل بعض الفعاليات الثقافية المصاحبة لمعرض "ما تقدّمه فلسطين للعالم" المقام في الفترة من 31 مايو/ أيار إلى 19 نوفمبر/ تشرين الثاني القادم دون تقديم أي تفسير لسبب هذا التأجيل.