ثقافة الاستباحة المطلقة التي شرعنت مجزرة مستشفى المعمدانيhttps://www.majalla.com/node/302401/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D8%A8%D8%A7%D8%AD%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B7%D9%84%D9%82%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%8A-%D8%B4%D8%B1%D8%B9%D9%86%D8%AA-%D9%85%D8%AC%D8%B2%D8%B1%D8%A9-%D9%85%D8%B3%D8%AA%D8%B4%D9%81%D9%89-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B9%D9%85%D8%AF%D8%A7%D9%86%D9%8A
قصفت إسرائيل مستشفى يعود تاريخ إنشائه إلى أواخر القرن التاسع عشر. مستشفى المعمداني لم يكن مجرد مؤسسة طبية ولكنه كان كتلة رمزية وثقافية صلبة تمثل في علاقتها بالحضور الفلسطيني حجة تاريخية، تضيء على حضور يسبق تاريخ الاحتلال وينسف شرعيته ومزاعمه.
لا يمكن أن يكون قتل أكثر من 500 من المرضى والمواطنين الهاربين إلى هذا المكان، إلا أن يكون فعلا مقصودا. فالمستشفى هو المكان الذي يعدّ المساس به محرّما بشكل مطلق ثقافيا وسياسيا وإنسانيا وحضاريا وأخلاقيا. استهدافه المقصود وما لحقه من تبريرات وتجاهل يجعلان كل هول آخر مباحا. فآلة الحرب الإسرائيلية تعلم أنها تسقط بإسقاطه كل البنى الثقافية والقانونية والأخلاقية وتلغيها دفعة واحدة.
خلال زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن إلى تل أبيب بعد المجزرة كرّر الخطاب الإسرائيلي حول اتهام طرف فلسطيني بالمسؤولية عن الاستهداف. لم يكلّف نفسه عناء محاولة تركيب صيغة أميركية تؤيد إسرائيل وتتبنى موقفها مع تنويعات كلامية أو تخريجات لفظية. بدا الكلام الإسرائيلي بالنسبة إليه مكتملا لا يحتمل أي إضافة أو تعديل وحاملا لبنية تقديس يمثل التشكيك في مصداقيتها اعتداء على العالم الغربي الحديث وثقافته.
كانت المشاهد المروعة والفظيعة لمئات القتلى من المدنيين والأطفال والنساء والتي شاهدها العالم بوضوح، مغطاة سلفا بكتلة صماء من تصنيف مسبق يرى في إسرائيل حالة استثنائية، تنطق باسم بنى ثقافية ليبرالية وحداثية وديمقراطية
الإهدار أصلا
كانت المشاهد المروعة والفظيعة لمئات القتلى من المدنيين والأطفال والنساء والتي شاهدها العالم بوضوح، مغطاة سلفا بكتلة صماء من تصنيف مسبق يرى في إسرائيل حالة استثنائية، تنطق باسم بنى ثقافية ليبرالية وحداثية وديمقراطية. مسؤولية المجزرة تقع عليها على الدوام، بما أنها القوّة المحتلّة والمهاجمة، بينما يستحيل عليها، وفقا لتلك النظرة، القيام بها لأنها تتناقض مع جوهرها وقيمها.
الحرب المفتوحة على غزة والتي تجاوز عدد الضحايا فيها 3400 شخص وتخطّى عدد الجرحى الـ 12000 وما ارتكبته إسرائيل خلالها من مجازر موثقة لا يمكن نسبها إليها، فالمسؤولية عنها تعود إلى من لا يتشاركون معها في القيم والثقافة.
ولم تقف كتلة المواقف الأميركية والأوروبية من حرب غزة عند حدود الدعم والتأييد، بل تجاوزتها لتقول إن كل العرب والمسلمين لا يمكنهم تشارك تلك الثقافة لسبب أصلي في تكوينهم. أي صفة يمتلكها الفلسطيني والعربي والمسلم ليست سوى قناع يخفي وجها إرهابيا يتيح تحويله إلى كائن بلا وزن ولا ملامح ولا قيمة.
أن يكون الفلسطيني أو العربي كاتبا أو موسيقيا أو شاعرا أو ممتلكا لحضور يدخله في عداد المشاركة في صناعة ثقافة العالم والتأثير فيها ومخاطبته من خلالها غير ممكن أساسا. لا يتعلق الأمر بالاعتراف أو عدم الاعتراف ولكنه يتصل بالإمكانية قبل كل شيء.
قال الخطاب الغربي بوضوح في مقاربته للموقف من حرب غزة إن الكائن غير الغربي عاجز عن إنتاج الثقافة. الموجة الطوفانية التي توحد فيها الغرب دفاعا عن إسرائيل ونزوعها الإبادي لأهل غزة بدت لوهلة منتسبة إلى واقع اللحظة التي أثارتها عملية "حماس" والتي فجرت سلسلة مخاوف عميقة عند الأوروبيين وأعادت تذكيرهم بتاريخ مظلم ومرعب، لم يكن ذلك الاصطفاف المطلق وراء إسرائيل وخطابها سوى تظهير له.
بيد أن واقع الأمر يثبت أن المسألة مستقلة بالكامل عن هجوم "حماس". فالسلطات الأوروبية في ردود فعلها، لم تمنع تأييد "حماس" وحسب بل عمدت مباشرة إلى محاولة إدانة كل ما يتعلق بفلسطين، وأطلقت موجات كراهية رسمية عارمة ضد العرب اجتهدت في تغليفها بإطار قانوني.
السلطات الألمانية منعت رفع علم فلسطين وذكر فلسطين والتظاهر رفضا لما يحدث في غزة تحت طائلة السجن والغرامات وسحب الجنسية والترحيل. ومثل هذا السياق الذي كررته عواصم أوروبية عديدة لا يمكن أن يكون وليد اللحظة. علاقتها بها تقتصر على أنها أتاحت ظهوره عاريا. إنه المكوّن الأصلي في الخطاب والثقافة والنظرة إلى الآخر، وقد كشف عن وجهه راسما ملامح وضوح حاسم لا يسمح بعد الآن بأي وهم. مجزرة مستشفى المعمداني كانت مسبوقة بشرعنتها والتي تفيض منها لتعم على كل حدث وسيحدث في تلك الحرب.
ثقافة الإبادة
كان هجوم "حماس" مدانا في الوسط العربي عموما بداعي رفض استهداف المدنيين في محاولة للدفاع عن الطابع الأخلاقي والإنساني للصراع بشكل يتسق مع تصنيف "حماس" كتنظيم إرهابي. وقد أدّت التحولات الكبرى في البنى الثقافية إلى تحويل المستوطن إلى كائن مدني أشبه بالداعية الحضاري في صحراء الوحوش والذي يمنح وجوده فلسطين هيئة غربية تجعلها آيلة للحياة. لم يذكر أحد في خطاب إدانة هجوم "حماس" صفة مستوطن أو يحاول البحث في العناصر التي تمنح صفة المدني لمن قدم من أقاصي الأرض ليحتل أرضا ليست أرضه ويسكن فيها متمتعا برعاية مادية وحراسة أمنية فائقة إضافة إلى تسليحه ومنحه الحق في الاعتداء على أي فلسطيني بلا أي مساءلة.
بات أهل غزة مجرد رمز لذلك الآخر المختلف والذي لا يحق له الوجود أساسا. كرّر ذلك الخطاب اللازمة النازية نفسها التي يدعي الغرب أنها تمثل بنية الذنب العميق جراء المسؤولية عن الهولوكوست والمجازر التي لحقت باليهود والتي لا يمكن السماح بتكرارها مهما كان الثمن
على الرغم من كتلة التراكمات في العلاقة مع فكرة إسرائيل ووجودها والانتقال من اعتبارها كيانا طارئا وغير شرعي إلى دولة قائمة يمكن أن تصاغ معها تفاهمات واتفاقيات تسمح باعتبار القادمين إليها مواطنين وإدانة استهدافهم، فالثقافة التي تحكم نظرة إسرائيل إلى المنطقة لم تقبل تلك الدرجة من الاعتراف والتفهم، فكان أن انطلقت العملية العسكرية في غزة مسبوقة بطموحات إبادية معلنة يتشارك في التعبير عنها رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو وكل وزراء حكومته وكذلك كل المزاج الشعبي والثقافي الإسرائيلي.
خرجت إلى العلن خطابات عنصرية وابادية لم تقتصر على المطالبة بإبادة الغزاويين بل قتل جميع العرب والمسلمين. بات أهل غزة مجرد رمز لذلك الآخر المختلف والذي لا يحق له الوجود أساسا. كرّر ذلك الخطاب اللازمة النازية نفسها التي يدعي الغرب أنها تمثل بنية الذنب العميق جراء المسؤولية عن الهولوكوست والمجازر التي لحقت باليهود والتي لا يمكن السماح بتكرارها مهما كان الثمن.
اليهودية التي لا يكف مؤيدو إسرئيل عن دفعها إلى الواجهة تمتلك ما لا يمكن موازاته من الألم والضحايا، وتاليا فان الدفاع عنها والانتقام لها مهما كان مغرقا في الوحشية لا يمنح من يقع عليهم أية إمكانية للصراخ أو رواية قصتهم. الحكاية الأصلية كتبت سلفا بالدم والسلاح والسطوة في قلب المنطقة، وتحولت إلى نسق ثقافي مهيمن يطلق على من لا ينسجم مع تأويلاته صفات الإرهاب ويستبيحه في كل المجالات وصولا إلى إهدار الدم.
اعتقد الفلسطينيون والعرب في مراحل مختلفة أنه من الممكن الانسجام مع متطلبات ذلك الإطار الثقافي وقدّموا عدة محاولات لتحقيق السلام ولكن في كل مرة ينكشف أن إسرائيل تتعامل مع الفكرة على أنها مدخل لتصفية القضية الفلسطينية ونزعها من سياقها العربي. ولم يتجلّ ذلك السعي في إفشال كل محاولات السلام فحسب، بل في الدفع الدائم لإحلال المتطرفين في الواجهة وتقديمهم على أنهم خلاصة ثقافة القتل والرغبة في إبادة اليهود. وبذلك تعطلت كل مسارات العلمنة وارتفعت نغمة التطرف والتخلف التي أسرت المجتمعات داخل منظومة عقائدية مغلقة.
بقي التناول الثقافي للمسألة الإسرائيلية خاضعا للعناوين التي وضعتها تلك التيارات التي كانت تطرح شعارات عريضة تلتقي مع ما تروجه الآلة الدعائية الإسرائيلية من مزاعم بالتهديد الدائم من قبيل الزحف نحو القدس وإبادة إسرائيل وغيرها، ومع أن تعبيرات أخرى كانت قائمة وتسعى للدفاع عن نفسها في إطار بنية ثقافية تسائل المشروع الإسرائيلي من زاوية التاريخ، والحق، والثقافة، وسردية المكان، والحضور والإرث، إلا أنها ظلّت مقيمة على هامش التمثل الثقافي العام.
تباينت مسألة الصراع وتشظت مع توقيع عدد من الدول العربية اتفاقيات سلام وبعد ما أنتجه اتفاق أوسلو الذي لم يؤسس لسلطة فلسطينية واضحة المعالم، بل اجتهدت إسرائيل في تحويل ذلك المسعى الفلسطيني لتحقيق حدّ أدنى من الاستقرار إلى حالة مستعصية مفتقدة لأدنى قدر من التماسك، بالتوازي مع تعزيز بنى التيارات المتطرفة مباشرة أو عبر جر الفلسطينيين عموما إلى شكل من الحياة المغلقة والمقفلة، بحيث يكون الانفجار الدائم واليائس حتميا وعشوائيا.
بدا هجوم "حماس"، في أسبابه ومقدّماته وخلفياته، مصنوعا بقوة الاستحالات التي فرضتها إسرائيل. الشكل الذي جاء به كان مفاجئا في زخمه وطريقة تنفيذه ولكنه كان تعبيرا عن انفجار كل صيغ الضبط السابقة وحدودها. إسرائيل الآن تواجه تنظيما خاضعا لتصنيف الإرهاب الغربي والعربي ويشكل نجاحه في إحداث اختراق نوعي في بنية الإحكام الأمني الإسرائيلي، مدخلا لتفعيل مشهدية التهديد الوجودي وأساطيرها المشحونة بصورة التفوق الثقافي والحضاري. بنية الإهدار التام متحققة ومكتملة سلفا وأهل غزة يخضعون لتصنيف يجعل منهم ضحايا "حماس".
إسرائيل كانت مرتاحة جدا بعد قصف المستشفى وخلال ساعات خرج الناطق العسكري ليقول إن "الجهاد الإسلامي" من فعلها. كان يعلم أن ما يقف وراء هذه الحكاية المسرفة في الاستخفاف بالمنطق ليس مجرد بنية عسكرية غربية بل نسق تأويل ثقافي محكم وشامل، يمتلك السيطرة على كل آليات صناعة الرأي والتأثير في العالم ويستطيع فرض مثل هذه الحكاية بتكرار متواصل يعكس العقيدة الثقافية للغرب.
تستعد إسرائيل لاقتحام غزة بريا وتحشد إضافة إلى الزخم العسكري الهائل المقدم لها من أميركا وعالم الغرب كله، بنية ثقافية تشرعن الإبادة، ولا تجد غضاضة في أن تطرح علانية مشروع ترانسفير جديد
كانت المؤسسات الإعلامية العريقة تطرح على الناطق باسم الجيش الإسرائيلي في مؤتمره الصحافي أسئلة تبدو متسقة مع السياق المهني، لكنها كانت تكتفي بما يصدر عنه من إجابات خالية من المنطق والتناسق، مما يدل على أن قرار التأييد والموافقة قد اتخذ سلفا. إنه أيديولوجيا وإيمان وأكثر من ذلك إنه هوية.
تعميم التطرف
تحدث الرئيس الأميركي في تل أبيب عن "المعجزة الإسرائيلية" وأعاد تأكيد مقولة أنه لو لم تكن إسرائيل موجودة لاخترعناها، معيدا الحديث حول خصوصيتها الحداثية، وفي الوقت نفسه كانت إسرائيل تلاحق كل تعبير إسرائيلي يحاول التمايز عن السردية العامة والبنى الثقافية الغالبة ولو كان منطلقا من عنوان إنساني ومدافعا عن أفكار السلام ورفض الحروب، وتعمل على إطلاق حملات شرسة ضد صاحبه بغض النظر عن موقعه ومكانته.
صُمّم تصميم نظام انتماء يتحرك وفق قاعدة الولاء المطلق وهي القاعدة نفسها التي تتعامل التنظيمات المتطرفة على أساسها، ولكن التأويل الثقافي الذي منحه الغرب لمنطق إسرائيل جعل من ذلك التطابق الحرفي تناقضا تاما.
تعيد المواقف المتتالية من دول الغرب والتي تستبطن تلك الصيغة، توكيد منطق إرهاب وتطرف انفجر بكل محمولاته ومخزونانه متخذا من "حماس" حجة وموضوعا قبل أن يكشف عن نزعة شمولية تطاول المختلف والآخر غير الغربي، وتكرسه كائنا مستباحا بغض النظر عن مواقفه. الاعتراض على "حماس" والتناقض مع حزب الله وتبني قيم الحداثة، لا تعفي من التبخيس المفضي إلى القتل.
بات التطرف المفتوح الشكل الوحيد للتخاطب بعد أن أقفلت كل الأبواب أمام محاولات العقلنة والتسويات. تستعد إسرائيل لاقتحام غزة بريا وتحشد إضافة إلى الزخم العسكري الهائل المقدم لها من أميركا وعالم الغرب كله، بنية ثقافية تشرعن الإبادة، ولا تجد غضاضة في أن تطرح علانية مشروع ترانسفير جديد. تلك حرب لا يمكن لإسرائيل أن تنتصر فيها حتى لو نجحت في تحقيق أهدافها المعلنة لأنها فجرت في مواجهتها مسار تطرف مشروع وراديكالي، ومنحته خطابا متماسكا وأحلته في موقع صناعة الشرعيات في العالمين العربي والإسلامي.