أبناء غزّة النازحين من بيوت دمّرت ورحلة البحث الشاق عن سبل العيشhttps://www.majalla.com/node/302396/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D8%A3%D8%A8%D9%86%D8%A7%D8%A1-%D8%BA%D8%B2%D9%91%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%A7%D8%B2%D8%AD%D9%8A%D9%86-%D9%85%D9%86-%D8%A8%D9%8A%D9%88%D8%AA-%D8%AF%D9%85%D9%91%D8%B1%D8%AA-%D9%88%D8%B1%D8%AD%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%AD%D8%AB-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%A7%D9%82-%D8%B9%D9%86-%D8%B3%D8%A8%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%8A%D8%B4
غزّة: مهما كان نوع المسكن، فإن الإنسان يجد الهدوء والسكينة بمجرد جلوسه بين جدران بيته.
في غزة جاءت حرب أكتوبر/ تشرين الأول، لتلغي هذه الفكرة، فمنذ بدايتها، بات الغزّي، مهددا بفقدان حياته، في انهيار سقف منزله وجدرانه عليه، في أية لحظة، بسبب القصف الأسرائيلي الذي لا يتوقف، برا وبحرا وجوا.
تتلاصق البيوت في غزة مربعات لعبة البازل، لا مساحات ولا مسافات بينها، وفي كل بيت وبناية، تتشارك العائلات المساحة، فالأب والأم والأبناء المتزوجون، والأحفاد، قد يكونون جميعا في المكان نفسه. ولعلّ هذا يساعد الجميع على فهم حجم الكارثة، فبمجرد سقوط صاروخ إسرائيلي على أي بناية، تكون النتيجة عشرات القتلى والجرحى، ورمية الجندي الإسرائيلي تعد رمية نرد صائبة بالنسبة إليه في كل الأحوال، فلا مجال أن يخرج الصاروخ صفر اليدين، وهو ما يفسّر تخطي عدد ضحايا حرب أكتوبر على غزة، الثلاثة آلاف خلال عشرة أيام فقط، ولا يزال العدد في تصاعد جنوني.
الخبز والدم
شهدنا خلال الأيام الأخيرة حادثتين توضحان مدى استهتار إسرائيل بحياة الإنسان، واعتماد منهج التطهير العرقي في غزة خلال هذه الحرب.
الأولى، كانت اصطفاف المواطنين الفلسطينيين أمام بوابات أحد المخابز في الحي الذي أسكنه، الجميع جاء ليحصل على حصة محددة ومقننة من الخبز، في ظل مشقة الحصول على طعام. وبالعادة، خلال الحروب الماضية، وحتى في أيام هذه الحرب، فإن اصطفاف الناس في هذه الحالة، يعتبر آمنا، لكن هذه المرة يقوم الجيش الإسرائيلي بارتكاب مجزرة، ويضرب بالصواريخ تجمع السكان أمام المخبز، موقعا عشرات الضحايا.
هذا رغيف الخبز، الحدّ الأدنى لمقتضيات العيش، وقد صار محرّما بقرار إسرائيلي، إنها لحظة يختلط فيها الخبز بالدم حرفيا، ليلخّص المشهد حياة الناس هنا
كانت الأشلاء ملقاة على طول الشارع بعد القصف، ومن بين الضحايا رجال وأطفال ونساء. هذا رغيف الخبز، الحدّ الأدنى لمقتضيات العيش، وقد صار محرّما بقرار إسرائيلي، إنها لحظة يختلط فيها الخبز بالدم حرفيا، ليلخّص المشهد حياة الناس هنا خلال هذه الأيام العصيبة.
الحادثة الثانية، تتجسّد في أن العائلات الفلسطينية من حي الشجاعية، المنطقة الحدودية الشرقية للقطاع، نزح بعضها إلى جنوب قطاع غزة، ومعظمهم توزعوا في ساحات المستشفيات، ينامون في العراء، في البرد اللاذع، وقد هجروا من بيوتهم عنوة، ولم يجدوا مأوى أو ملجأ، سوى تلك الساحات؟ فهل اكتفت إسرائيل بذلك؟ لا، لقد قامت بقصف تجمع كبير جدا للعائلات المهجرة، في ساحات المستشفى المعمداني الإنكليزي في وسط غزة، قصفا مباشرا، موقعة مئات الضحايا، من الأطفال والنساء والرجال والكهول، انتشرت أشلاؤهم لتملأ المكان، وكأن الفلسطينيين تحولوا إلى مستعمرات نمل، تضربهم إسرائيل بكل سهولة، فاتكة بحياتهم، دون أدنى رقابة إنسانية، فالعالم كله يرى ويسمع ما يحدث في هذه البقعة الصغيرة، التي تعد أكبر كثافة سكانية في العالم.
قصف النازحين
في جنوب القطاع، نزح مئات الآلاف من السكان من مدينة غزة وشمال القطاع، هاربين من تهديدات الإسرائيليين، ومن القصف الجنوني على المنازل، وعلى الرغم من وعود الجيش الإسرائيلي، بأن تكون هذه المناطق آمنة، وبأن المناطق التي هجروا منها هي فقط المستهدفة، لكن القصف يشتدّ في جنوب قطاع غزة، فنجد البنايات التي تضمّ النازحين إلى جانب أهلها، تقصف بالصواريخ، من دون سابق تحذير، فتتساقط الأسقف على رؤوس قاطنيها، وفي كل مرة يزداد عدد الضحايا، وهو ما يعني أنه لم يعد من مكان آمن داخل غزة كلها، وأن إسرائيل تتلاعب بحياة الناس هناك، وكأنها لعبة اصطياد طيور في غابة.
الشعور المسيطر على الجميع هو اقتراب نهاية حياتهم، فكل واحد منا، بما في ذلك الأطفال، يشعر أن رأسه على المقصلة، أكثر من مليوني فلسطيني في غزة، حياتهم مسترخصة من قبل إسرائيل التي تقوم بفعل ما يحلو لها بعد أن هدرت دم كلّ ما يتحرّك داخل هذا القفص المحكم، وسط تأييد أميركي وأوروبي لجرائمها.
ماء شحيح ومعلبات رديئة
منذ بداية الحرب، أعلن الاحتلال قطع إمدادات الطعام والمياه والكهرباء عن قطاع غزة، مجبرا الناس على العيش في شروط غير إنسانية، فالماء أصبح عملة نادرة، والكثير من العائلات بدأ بالفعل يواجه كوارث صحية، حيث الجفاف، وانتقال العدوى، بسبب انحسار مستوى النظافة الجسدية للفرد. كما أن اختلاط الناس من مناطق مختلفة، بسبب النزوح القسري، أسهم في نقل الميكروبات وانتشارها بين الأفراد والجماعات.
إن عملية الحصول على المياه المحلاة للعائلات في جميع مناطق القطاع أصبح شبه معجزة، خاصة وأن المياه في غزّة، تصنف من قبل الأمم المتحدة بأنها غير صالحة للشرب، من الأصل. فما بالكم خلال الحرب، حيث أصبحت محطات التحلية في غزة بالكاد تعمل في ظل شحّ الوقود اللازم لتشغيلها.
لا أمان في غزة في ظل استمرار الحرب الضروس على السكان المدنيين، لا ماء ولا طعام يكفي لسد الحاجات اليومية، والقصف يستمر، وعدد الضحايا يتزايد، في منطقة كانت في الأصل خاضعة لحصار كبير
يصل الماء إلى البيوت عبر عربات الجرّ التي تقف عند مداخل الأحياء، فيصطف الناس، ويتجمهرون، حول العربة، من أجل تعبئة حاويات صغيرة بالكاد تكيفهم بضع ساعات.
أما بالنسبة إلى الطعام، فأغلبية الناس يعتمدون على المعلبات الرديئة من اللحوم المصنعة، والتي تحتوي كميات كبيرة من المواد الحافظة، وهذا بسبب عدم القدرة على تلبية الحاجات اليومية، للحياة، في ظل انعدام الكهرباء وعدم إمكانية حفظ المواد الغذائية، إن وجدت، داخل الثلاجات التي تحولت إلى مجرد صناديق بفعل انقطاع الكهرباء.
تشتّت العائلات
أزمة أخرى، يخضع لها سكان القطاع خلال الحرب، وهي تشتت العائلات، فنجد أن الأب ينزح إلى مكان، في حين تنزح أسرته وأولاده، إلى مكان آخر، حسب المتوفر. وما يعقّد فكرة التواصل ولمّ الشمل العائلي، انقطاع المواصلات بين أطراف البلدات والمدن الصغيرة داخل القطاع، بسبب وحشية القصف، وكذلك بسبب شح الوقود اللازم لتنقل المركبات، والتي إن توفرت فإنها تكلف المواطن ثمنا لا يقوى على احتماله، فقد وصلت تسعيرة تنقل سيارة الأجرة بين مدينة غزة، وسط القطاع، ومدينة رفح جنوبه، إلى أكثر من مئة دولار.
كما تجد العائلات المشتتة صعوبات جمّة في التواصل، بسبب ضعف الشبكة الخلوية في غزة، بعد قصف أبراجها، المرفوعة فوق مبنى شركة الاتصالات الفلسطينية وسط غزة بداية الحرب، وبفعل اشتداد الضغط على الشبكة. بعد بدء عملية النزوح بين المدن، تعقدت إمكانية التواصل، وحتى الرسائل الكتابية عبر الشبكة، لا تصل إلا بصعوبة بالغة، إن وصلت.
لا أمان في غزة في ظل استمرار الحرب الضروس على السكان المدنيين، لا ماء ولا طعام يكفي لسد الحاجات اليومية، والقصف يستمر، وعدد الضحايا يتزايد، في منطقة كانت في الأصل خاضعة لحصار كبير منذ 2008.
إن استمرار الحرب على أكثر من مليوني إنسان غزي، ينذر بكارثة إنسانية، قد تمتدّ آثارها لسنوات طويلة، ويهدد إمكانية استمرار الحياة في منطقة منكوبة مثل قطاع غزة، تعاني ظروفا اجتماعية واقتصادية سيئة منذ ما يقارب العقدين من الزمن، وهو ما يتطلّب التدخل العاجل لوقف الحرب، أو في التقدير الأقلّ توفير المساعدات الضرورية لسدّ رمق المدنيين في غزة.