نصف عام من جنون الحرب في السودانhttps://www.majalla.com/node/302356/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D9%86%D8%B5%D9%81-%D8%B9%D8%A7%D9%85-%D9%85%D9%86-%D8%AC%D9%86%D9%88%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D8%A8-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%AF%D8%A7%D9%86
نصف عام، أكملتها الحرب في السودان منذ اندلاعها بين القوات المسلحة السودانية و"قوات الدعم السريع". ستة أشهر كانت حصيلتها 9 آلاف من القتلى المدنيين، وأعدادا ضخمة غير محصورة من القتلى العسكريين من الجانبين. تربع السودان مقعده البائس في صدارة دول العالم في أعداد النازحين واللاجئين الذين فاقوا حاجز السبعة ملايين. انقطع 19 مليون طفل عن التعليم، بينما بلغ العدد الكلي للذين يحتاجون للمعونة الإنسانية جراء الحرب حوالي 25 مليون نسمة حتى الآن.
تحولت العاصمة الخرطوم إلى مدينة أشباح، بعد أن غادرها أكثر من ثلثي سكانها، طلبا للسلامة، وفرارا من الحرب بين قائد الجيش عبدالفتاح البرهان، ونائبه السابق محمد حمدان دقلو الذي يقود "قوات الدعم السريع"، بشكل رئيس في الخرطوم ومنطقة دارفور.
صور قادة الميليشيا وأبواقهم الإعلامية والسياسية لجنودهم البسطاء أنهم يحاربون في سبيل إحقاق عدالة انتهكتها شروط تأسيس دولة 1956 (تاريخ استقلال السودان)، وغذوا هذه السردية بإثارة النزعات الجهوية والمناطقية. صوروا لهم أن كل سكان الخرطوم، هم العدو الذي يحل قتله ونهبه وهتك عرضه؛ فعاث الجنود فسادا في الأرض وانتهكوا حرمات منازل الآمنين. لم يتورع أفراد الميليشيا عن توثيق وتصوير أنفسهم وهم يحتلون البيوت وينهبونها. ووثقت جماعات حقوقية في الخرطوم العشرات من حالات الاغتصاب الفردي والجماعي للنساء والفتيات، فضلا عن نهب الممتلكات والمدخرات والمنقولات.
انتشرت تسمية (أسواق دقلو، والنسب هنا لمالك الميليشيا محمد حمد دقلو) في تعريف الأسواق العشوائية التي يبيع فيها الغاصبون ما نهبوه بأسعار زهيدة مقارنة مع قيمتها الأصلية. بينما أصبحت رسائل تهديد قاطني المنازل الجدد لأصحابها الأصليين من قصص الحرب المعتادة.
تحولت العاصمة الخرطوم إلى مدينة أشباح، بعد أن غادرها أكثر من ثلثي سكانها طلبا للسلامة وفرارا من الحرب بين قائد الجيش عبدالفتاح البرهان ونائبه السابق محمد حمدان دقلو الذي يقود "قوات الدعم السريع"، بشكل رئيس في الخرطوم ومنطقة دارفور. صوّر قادة الميليشيا وأبواقهم الإعلامية والسياسية لجنودهم البسطاء أنهم يحاربون في سبيل إحقاق عدالة انتهكتها شروط تأسيس دولة 1956 (تاريخ استقلال السودان) وغذوا هذه السردية بإثارة النزعات الجهوية والمناطقية
وسجلت الجماعات الحقوقية أيضا انتهاكات حقوقية جسيمة في دارفور، على يد "قوات الدعم السريع"، وسط اتهامات لها باغتيال والي ولاية غرب دارفور، خميس أبكر، والتمثيل بجثته، واستهداف مجتمع المساليت لتكرر مشاهد مجازر الإبادة الجماعية والتطهير العرقي التي ارتكبتها الميليشيا في نسختها الجنجويدية الأولى طوال العقد الأول من القرن الحالي، بتوثيق- آنذاك- من الأمم المتحدة ومنظمات حقوقية دولية. وفي الحرب الراهنة، شردت الحرب مئات الآلاف من أهل دارفور ودمرت "قوات الدعم" معسكرات اللاجئين، الذين عانوا من غائلات النزوح مرة أخرى.
استثمرت ميليشيا قوات الدعم السريع بكثافة من قبل في تدمير نسق الحياة الطبيعية في أطراف السودان، ليصبح القتال وحمل السلاح في صفوفها هو مورد العيش الوحيد المتوفر للشباب. واستخدم حميدتي هذا الأمر كرجل أعمال ماهر ليسوق ميليشياته للرئيس المخلوع البشير، والذي رفعه عنده مكانا عليا حتى سمى قواته "قوات حمايتي" وليست قوات حميدتي.
نافس حميدتي الجيش منذ عهد البشير وتميز كـ"مقاول أفراد" قادرين على القتال بشراسة ودون الالتزام بأي قواعد للاشتباك، وغير مقيدين بأي قانون أو لوائح عسكرية. ثم جاء الذهب كمورد اقتصادي جديد عجزت قوى السوق التقليدية في السودان عن التعامل معه. بالإضافة إلى مخاطر ارتفاع تكلفة العمالة، وانتشار التعدين التقليدي بالإضافة إلى بعد مسافات مناطق التعدين عن المناطق الآمنة لعمل الرأسمالية السودانية وارتفاع تكلفة التأمين والحراسات في تلك المناطق.
ومنح حميدتي وغيره من الميليشيات المحلية والأجنبية الفرصة للسيطرة على أنشطة تعدين الذهب بشكل كبير. وهو ما استثمره حميدتي مرة أخرى في إعادة تعريف سبل كسب العيش في السودان؛ فبين العمل المباشر لصالح الميليشيا، أو دفع إتاوات الحماية والتأمين لها، أو حتى مشاركتها عائد التعدين مقابل التسويق الخارجي (والمعني به التهريب)، أصبح الارتباط بالميليشيا هو أحد أبرز سبل كسب العيش في الأطراف السودانية، واستفاد اقتصاديا وعسكريا وسياسيا بسبب علاقاته الإقليمية القوية. وأصبحت الميليشيا لاعبا أساسيا في حلبة السياسة السودانية منذ وقت مبكر، وقبل انتصار ثورة ديسمبر/كانون الأول في الإطاحة بالبشير، دون الحاجة للتأطير الآيديولوجي عن اختلالات ومظالم دولة 56.
خصخصة الجيش
من جهة أخرى، كشفت الحرب عورات الجيش السوداني الفاضحة؛ فبعد أن اعتاد على "خصخصة" عمله الميداني ومشاته لميليشيات موازية، شملت تطوراتها قوات المراحيل والدفاع الشعبي والقوات الصديقة والجنجويد ثم قوات الدعم السريع، أفاق قادته الذين استغرقهم حب الانخراط في الطموحات السياسية وفرض الوصاية على الدولة، وأنفقوا جل وقتهم وجهدهم في الاهتمام بالأنشطة الاقتصادية للمنظومة الاقتصادية العسكرية (التصنيع الحربي) الذي انخرط في ممارسة التجارة وتصدير اللحوم والاستيراد ولم ينس التعدين أيضا.
أخذتهم على حين غرة فُجاءة انقضاض الميليشيا على جهاز الدولة. تلفتوا إلى بعضهم البعض، فوجدوا جيشهم يفتقر إلى المشاة المقاتلين، وإلى التجهيز التكتيكي واللوجستي لأداء دوره الأساسي في حماية البلاد، فاستعاضوا على ذلك بقصف الطيران، والذي لم يفرق في إلقاء جحيمه بين المدنيين في مخابئهم وأفراد الميليشيا. أشعلت الميليشيا جحيمها على الأرض، ورمت به طائرات الجيش من السماء!
جذل قادة الإسلاميين الذين خلعتهم ثورة الشعب من مقاعد سلطة الفساد والاستبداد باندلاع الحرب. خرجوا من السجون التي فتحت أبوابها، والتفتوا لإحياء دوائر نفوذهم وسيطرتهم على جهاز الدولة، ومنها مفاصل حيوية في اتخاذ القرار في مؤسسة الجيش. انخرطوا في إضرام نيران الحرب، في جانبيها. فكما كان لوجودهم تأثيره على مؤسسة الجيش، كان وجودهم أيضا داخل صفوف الميليشيا. خاض الإسلاميون صراعاتهم الداخلية على مقاعد السلطة بالسلاح هذه المرة. اختلفت هذه المعسكرات فيما بينها على كل شيء إلا سعي كل معسكر منهم لاستعادة السيطرة الكاملة على البلاد.
تلجلج مدنيو النادي السياسي السوداني على وقع طبول هذه الحرب. أخذت بعضهم عداوته المتراكمة للجيش الذي مارس كل انتهاكات السياسة منذ تأسيسه. فأنكروا انتهاكات الميليشيا، ثم أدانوها على خجل، ثم اختاروا تجاهلها والتركيز على انتقاد قيادة الجيش. ثم اختاروا السعي فيما بينهم لوحدة هيكلية يحاولون عبرها استعادة تأثيرهم على المشهد. كان هول هذه الحرب على ساسة السودان عظيما.
كشفت الحرب عورات الجيش السوداني الفاضحة. فبعد أن اعتاد على خصخصة عمله الميداني ومشاته لميليشيات موازية، شملت تطوراتها قوات المراحيل والدفاع الشعبي والقوات الصديقة والجنجويد ثم قوات الدعم السريع، أفاق قادته الذين استغرقهم حب الانخراط في الطموحات السياسية وفرض الوصاية على الدولة، وأنفقوا جل وقتهم وجهدهم في الاهتمام بالأنشطة الاقتصادية للمنظومة الاقتصادية العسكرية.
وبالرغم من تعدد الحروب الأهلية التي مرت على السودان، وعلى الرغم من تكرار الانقلابات العسكرية، إلا أن دور النادي السياسي المدني كان دائما ذا تأثير. ولكن في هذه الحرب، بين الجيش وقوات الدعم السريع، أضحى دور المدنيين لأول مرة عرضيا، وغير ذي صلة بتحديد مجريات الأمور.
أما السودانيون، فقد امتلأت بهم المنافي. وتضجرت دول الجوار التي استقبلتهم بأذرع مفتوحة في مطلع الأمر بالأعداد المتزايدة من اللاجئين إلى أراضيها. لم يفق السودانيون بعد من هول المفاجأة بعد ستة أشهر من اندلاع الحرب. لا يزال الكثيرون يعيشون في وهم قرب انتهاء الأزمة ومعاودتهم لحياتهم الطبيعية. عجز أغلبهم وهم يعيشون على مدخراتهم عن التفكير في آفاق المستقبل القريب، أو البحث عن سبل كسب عيش جديدة تتوافق مع طبيعة حالهم كلاجئين.
بل إن أغلبهم لا يزال يأنف من هذا التوصيف. وكان هولاء هم المحظوظون من أبناء السودان؛ فغالبية من نزحوا إلى الولايات الآمنة خارج منطقة الحرب، يعانون من أثر الحرب مضاعفا. فما بين تأثيرات الحرب على اقتصاد البلاد بشكل كلي، وارتفاع الأسعار وشح السلع، وبين اختلال النسق الطبيعي لحياتهم وغياب فعالية جهاز الدولة المشغولة بحربها مع الميليشيا، أصبح النازحون في وضع لا يحسدون عليه. أما أهل بلادي المحبوسون في مناطق الحرب، والتي تتسع باضطراد كل يوم، فقد قعد بهم نقص المال، أو صعوبة حركة كبار السن، أو الافتقار إلى البديل المعيشي في مناطق أخرى.
أسئلة رئيسة بعد ستة أشهر
بعد ستة اشهر من الحرب، والتي لم تتوقف للحظة حتى الآن، فإن على السودانيين ضرورة مواجهة الواقع. لم تعد بلادنا دولة، بل هي ساحة حرب مجنونة ليس فيها مجال للتنافس السياسي. نحن مواجهون بضرورة الإجابة على أسئلة رئيسة متعلقة بكيف نوقف هذه الحرب، التي دمرت بلادنا.
ماذا نصنع مع مؤسسة الجيش؟ فهذه المؤسسة أثبتت عجزها وفشلها في أداء واجبها الأساسي. أصابها داء التسييس وتمكين الإسلاميين في مقتل.
ماذا نصنع مع قيادة الجيش الحالية؟ فالواهم فقط هو من يتصور إمكانية استمرار القيادة السياسية الحالية للجيش السوداني على سدة أمره؛ فإذا تقاضينا عن فشلها في حسم الأمور عسكريا حتى الآن باعتبار أن الحرب فر وكر، فإن مسؤوليتها تجاه ما وصلت إليه الميليشيا من تمدد وسطوة لا يمكن تجاهلها.
ماذا نصنع مع ميليشيا قوات الدعم السريع؟ وهذا سؤال لا يمكن الإجابة عليه بعموميات تكوين جيش وطني موحد أو أساليب الدمج والتسريح. فالوجود المؤسسي للميليشيا أصبح له امتدادته الاقتصادية والسياسية، وأي محاولة للإبقاء على هذا الوجود المؤسسي بامتداداته المتشابكة هذه تعتبر بذرة لحرب أخرى قادمة. كما أن أي محاولة لتفكيك التسييس في المؤسسة العسكرية لا يمكن أن يحدث بإضافة جيب سياسي جديد لها.
السودان مواجهة بأسئلة أن يكون أو لا يكون، وهذه هي لحظة الحقيقة. لن يجدي توحيد المدنيين ولا وقف إطلاق النار ولا الحديث عن عملية سياسية تأسيسية، قبل تحديد الإجابات الواضحة والمواقف الواضحة من هذه الأسئلة الخمسة. وعسى أن تكون الإجابة عليها مدخلا لأن تكون الستة أشهر الماضية هي الأخيرة من عمر الاقتتال السوداني.
ماذا نصنع مع الحركة الإسلامية في السودان؟ فالإسلاميون على مختلف معسكراتهم اشتركوا في إشعال هذه الحرب، كما اشتركوا من قبل في تحريض الطرفين المتقاتلين حاليا في الانقلاب على الحكم المدني الانتقالي. الإسلاميون هم الضلع الثالث في هذه الحرب بلا منازع.
أما السؤال الأخير فهو: ماذا نصنع مع الأطراف الإقليمية والدولية؟ فالحرب الحالية في السودان تجاوزت حدوده، وانخرط كثير من الأطراف الإقليمية- وحتى الدولية- فيها بشكل مباشر وغير مباشر، حماية لمصالحه أو طمعا في مصالح وفوائد يوفرها له غياب الدولة في السودان.
الإجابة على هذه الأسئلة ليست ترفا فكريا، بل إن بعضها- وخصوصا فيما يتعلق بـ "الدعم السريع" - يعتبر مساحة اختلاف واسعة بين الساسة المدنيين في السودان. ويلجأ بعض هؤلاء لمحاولة تفادي الإجابة على هذه الأسئلة أو إغراقها في لجة الغموض، إما لإخفاء الموقف الحقيقي وإما للتأجيل. ولكن هذا التهرب لن يجدي البلاد ولا العباد في السودان شيئا.
السودان مواجهة بأسئلة أن يكون أو لا يكون، وهذه هي لحظة الحقيقة. لن يجدي توحيد المدنيين ولا وقف إطلاق النار ولا الحديث عن عملية سياسية تأسيسية، قبل تحديد الإجابات الواضحة والمواقف الواضحة من هذه الأسئلة الخمسة. وعسى أن تكون الإجابة عليها مدخلا لأن تكون الستة أشهر الماضية هي الأخيرة من عمر الاقتتال السوداني.