في غزّة... أحفاد يعيشون نكبة الأجداد على وقع تغريبة جديدةhttps://www.majalla.com/node/302121/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D9%81%D9%8A-%D8%BA%D8%B2%D9%91%D8%A9-%D8%A3%D8%AD%D9%81%D8%A7%D8%AF-%D9%8A%D8%B9%D9%8A%D8%B4%D9%88%D9%86-%D9%86%D9%83%D8%A8%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%AC%D8%AF%D8%A7%D8%AF-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D9%88%D9%82%D8%B9-%D8%AA%D8%BA%D8%B1%D9%8A%D8%A8%D8%A9-%D8%AC%D8%AF%D9%8A%D8%AF%D8%A9
غزّة: تؤدّي علاقات القرابة والصداقة وغيرها من أواصر اجتماعية في قطاع غزة دورا بالغ التأثير، ويعدّ الترابط الأسري سندا كبيرا يقوم عليه تماسك البنية المجتمعية، مما يزيد هذا الترابط قوة وتلاحما في الأزمات.
ومنذ بدأت الحرب الأخيرة، التفّت هذه العائلات حول بعضها، لاسيما تلك المقيمة في شمال قطاع غزة، خاصة في منطقتي بيت حانون وبيت لاهيا، ممن اضطروا إلى مغادرة منازلهم تحت وطأة القصف الإسرائيلي الرهيب والتهديدات المتواصلة لحياتهم هناك.
خلال الأيام الثلاثة الأولى من الحرب، بدأ نزوح سكان الشمال إلى مناطق مختلفة في عمق غزة، للنجاة بحياتهم. وإذا كان هذا النزوح أمرا طبيعيا خلال المواجهات الحربية السابقة، لكنه في هذه الحرب اتخذ طابعا شاملا بعد أن قرّر الاحتلال الإسرائيلي، ودون أي مراعاة لتركيبة القطاع الاجتماعية، تهجير سكان شمال القطاع، ومدينة غزة، إلى جنوب القطاع، عبر إجبار الجميع على الخروج من المنازل، سواء من خلال القصف المباشر دون سابق إنذار، أو من خلال الرسائل الصوتية على الهواتف النقالة، وكذلك الرسائل الورقية التي تلقيها المقاتلات من الجوّ.
إنذارات زمنية محدّدة، وأوامر معجزة تنافي كلّ المواثيق الدولية، فرضها الاحتلال على المدنيين الفلسطينيين، من خلال ترهيبهم عبر التهديدات المتكررة، والقصف الوحشي لمنازلهم ومحيطها.
بقيت أتجنب النظر إلى المرآة، أخاف أن أنكشف على ملامحي، أخاف أن أرى خذلاني مسيطرا على ملامح وجهي. حالات صمت كبيرة، ذهول مما يحدث، وكأن عجلة التاريخ بدأت بالعودة إلى الوراء، لتعيد إلى الأذهان زمن النكبة الفلسطينية عام 1948
سمع الناس بهذه الإنذارات وتلقوها مثل فأس تقع على رؤوسهم. رحت أنظر إلى وجوههم، فأرى الصدمة الكاملة، الجميع يضرب كفا بكف، ويلوح بأيديه نحو السماء، ففي داخل كل واحد منا كلام يعجز عن قوله، وصدمة لا يعرف كيف يتعامل معها. بقيت أتجنب النظر إلى المرآة، أخاف أن أنكشف على ملامحي، أخاف أن أرى خذلاني مسيطرا على ملامح وجهي. حالات صمت كبيرة، ذهول مما يحدث، وكأن عجلة التاريخ بدأت بالعودة إلى الوراء، لتعيد إلى الأذهان زمن النكبة الفلسطينية عام 1948.
ظللت طوال الأسبوع المنصرم أؤجل إخلاء منزلي، بل أرفض الفكرة، لكنّ القصف الجوي والمدفعي اشتدّ في منطقتي، حتى بات من المستحيل تجاهله، مع العلم أنها ليست حدودية، لكنها مسرح لاعتداءات الاحتلال المتكرّرة. كان القصف، من حيث قوة الضربات ونوعها وكثافتها، ينذر بمرحلة جديدة من الرعب.
تكرار التيه
خرجت، وسكان منطقتي، ومدينة غزة والمدن المجاورة، تاركين منازلنا، ومضينا نبحث بخطى ثقيلة عن برّ الأمان، وكأن خيوط ذكرياتنا وخوفنا الشديد من احتمال ألا نعود والخشية من تكرار التيه الفلسطيني، تشدّنا لكي نعود أدراجنا.
قلت في البداية، وقال الناس، لعلها أداة من أدوات الضغط المعتادة من قبل احتلال لا يرحم ضعف الناس هنا. لكن الاحتلال هذه المرة لا يراوغ، وصواريخه وقذائفه ومقاتلاته تؤكّد نواياه المبيتة والمعلنة.
جدل كبير
الصوت كان عاليا مؤلما، صوت هز المدينة بأكملها، لقد بدأنا نتشبّع بالفكرة، وبدأت العائلات الغزية تجتمع، ارتفعت الأصوات في البيوت، الآراء متناقضة، كثير من الرجال يرددون: لا نريد أن نرحل، فلنبقَ هنا وليحدث ما يحدث. وعلى الجهة الثانية من الموقف، نساء يتحدثن بألم ورعب وهن ينظرن إلى أطفالهنّ: لكننا سنموت هنا. وطرف ثالث يضرب عرض الحائط بالحسابات وبالآراء، إنه بكاء الأطفال، نبضهم المشتعل، والدم الذي جفّ في وجوههم من هول الرعب.
تعقيدات كثيرة ما بين الخوف من التهجير، وتكرار نكبة 1948، وتخيل الحجز القسري في المخيمات على الحدود مع مصر، أو البقاء وتحدي التهديدات الإسرائيلية، ومواجهة خطر الموت الماثل بقوة طاغية تفوق أيّ وقت مضى.
تمر ساعات، وتنتشر أخبار الإنذارات، وفجأة تدبّ الحركة في شوارع غزة، حيث بدأ الناس فعلا بالنزوح.
شكل الهجرة
وأنا في الطريق، صرت اتأمل ما يحدث حولي، سيارات وشاحنات صغيرة تحمل العائلات بصحبة بعض المقتنيات المربوطة بأحزمة فوق أسقف المركبات، فرشات ومخدات وأغطية، لقد تنوعت وسائل النقل، البعض حمل مقتنياته على عربة صغيرة "التوكتوك"، والبعض في الشاحنات الضخمة التي تحوي عدة عائلات، إنها الهجرة أقلعت من جديد في غزة.
مجرّد النظر إلى وجوه المرحلين النازحين، عبء ثقيل لا يحتمل، أتأمل وجوه الرجال العابسة، الكثير منهم يدخن، وينفث مع الدخان تنهدات الارتحال إلى المجهول. اما وجوه النساء، فباتت مسكونة بالقلق والخوف والشحوب، وأما الأطفال فتحمل وجوههم خيوطا ممتدّة من الرعب، رعب الموت، ورعب التشرّد.
معظم الناس بدوا معجونين بالصدمة، الكل ينظر إلى مكان مجهول، صمت رهيب في الحافلات، الشعب الذي اعتاد على الكلام في كل الظروف، فقد ملكة النطق.
التغريبة
أنظر إلى الوجوه، فتعيدني بالزمن إلى عقود خلت، أستعيد مشاهد التغريبة الفلسطينية، وأحاديث أبي عن النكبة، يا إلهي، إنها المشاهد نفسها التي سمعت عنها، أعيشها ويعيشها أطفال غزة من جديد، الوجوه نفسها يمزّقها القلق، الفوضى نفسها، الزحام الشديد في أوج الحرب، حتى الطقس كان حارا كما كنت أستشعره وأنا أتأمل هذه التغريبة الجديدة التي يفرّ الناس فيها من موت محقّق إلى مجهول مستحيل.
خرج الناس يحملون الأقلّ من متاعهم، وأوراقهم الثبوتية من هويات وصكوك ملكية، تاركين أعمارهم وذكرياتهم خلفهم، لتكمل قوات الاحتلال الفتك بها.
عند السرايا وسط مدينة غزة، إذ احتشد المئات ينتظرون مركبات تحملهم إلى أماكن نزوحهم التي حدّدها الاحتلال.
البعض يقول إنها نكبة جديدة، سيتم ترحلينا إلى شمال سيناء، ستتجدد تجربة الخيام التي جربها أجدادنا من قبل. ومع ذلك، فثمة من ينظر إلى المستقبل القريب بعين الأماني والتفاؤل: ما هي إلا أيام ونعود إلى منازلنا، يا إلهي، إنها الحوارات نفسها، نكبتان خلال سبعين عاما أو أكثر قليلا تتكرر خلالهما مشاهد التهجير نفسها، والتي تأتي بعد أعمال قتل وتدمير يمارسها الاحتلال ذاته، بطبيعته الإجرامية التي يبدو أنها الوحيدة التي بقيت على حالها.
معذرة
كنت في السابق، أجادل أبي في حيثيات نكبة 1948، فألوم أجدادنا لأنهم تخلوا عن منازلهم، وتركوا العدو يحقّق أهدافه، كنت أقول لو كنت مكانهم، لبقيت، لكن الحياة تعيد تكرار الحلقة نفسها، وأجد نفسي ساقطا مع عائلتي في الدوامة نفسها.
الآن عرفت لماذا هاجر أجدادي، لماذا تركوا بيوتهم خاوية، ونفذوا إرادة المحتل، لقد كان الأمر عليهم وعلينا، نحن جيل اليوم، أصعب من أن يحتمله عقل، فكما وقعوا في 1948 في فخ التضارب في الآراء، والخوف، نقع نحن في 2023.
صرت أعذر الجدّ، أبرّر له النزوح، لقد كان الأمر أكبر من أن يتخذ المرء قرارا بالرحيل، كانت تجربة مريرة في تحدّي جيش مسلّح بأعتى الآلات والأسلحة
صرت أعذر الجدّ، أبرّر له النزوح، لقد كان الأمر أكبر من أن يتخذ المرء قرارا بالرحيل، كانت تجربة مريرة في تحدّي جيش مسلّح بأعتى الآلات والأسلحة، إنه التهور باتجاه الموت إذن، وأول المشاهد التي خطرت ببالي، مشاهد مجزرة رأس الناقورة قضاء حيفا، التي حدث خلال النكبة الفلسطينية 1948، إذ حفر جنود الاحتلال وقتها، حفرة كبيرة في القرية، وضعوا فيها الناس أحياء وردموها على أجسادهم دون أدنى رحمة. لذا خرجت كما خرج مئات الآلاف من عمق غزة، إلى جنوب القطاع، فهل سيعذرني حفيدي في المستقبل؟
مكافأة
خلال الطريق إلى الجنوب، كان البطء في مرور السيارات، العائق الأكبر في الوصول لمكان آمن. كان قلقي يتصاعد، من فكرة أن الجيش الإسرائيلي، يعد خدعة، إذ أن التجمعات الهائلة تشكل فرصة للاحتلال، لتنفيذ ضربة قاسية، وقصف تجمع ما بشكل عشوائي، فلطالما قصف الطيران الحربي الاسرائيلي التجمعات المدنية.
حين وصلت إلى مكان سكني الجديد، بالطبع كان الإنترنت مقطوعا، لأن الاحتلال دمّر أبراج شركة الاتصالات في غزة، فأصبح الإنترنت نادرا.
عدت فوجدت المفاجأة، فقد نفذ الاحتلال ما كان يرعبني طوال الطريق، إذ قصف شاحنة تقل عددا كبيرا من الناس، كانت تمضي في الموكب البطيء المكتظ من السيارات، من غزة إلى الجنوب، وكانت المحصلة عشرات الشهداء، ومئات الجرحى، حقيقة أن هذا الاحتلال لا يؤمن له جانب، ولا اعتبارات أو مكافآت لمن ينفذ أوامره، فكل فلسطيني يحمل حكما بالإعدام موقعا منه، الفارق فقط في التوقيت.