بعد أن تبين عمق وشمولية إخفاق إسرائيل وجيشها ومخابراتها وجدارها الأمني ووسائل التنصت التي بنتها وباعتها للعالم بمليارات الدولارات، أسرع أقطاب العمل السياسي إلى الدعوة للوحدة والوقوف صفا واحدا ضد “حماس” ونجاحها غير المسبوق في هجومها الأولي على إسرائيل، من حيث تخطي حدودها والجدار الذي اعتُقد أنه غير قابل للكسر.
كانت مسألة وقت قصير جدا، قبل أن يدعو قادة الأحزاب المركزية لإقامة حكومة "وحدة وطنية"، ويبدأون في نقاش ترتيبات إقامتها وكيفية إدارة شؤون الدولة تحتها. تواترت الأخبار عن اجتماعات خلال الأسبوع الأخير بين أعضاء في أحزاب المعارضة مع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وفتح الباب لعودة الفكرة إلى الساحة السياسية. وطبعا حسب توافقات مبدئية وحلول وسط، وكله في سياق الوحدة المطلوبة، حسب سياقها، في الظرف الصعب الذي قادته “حماس” وأدخلت به إسرائيل في بوابة عصر يختلف عما سبق السابع من أكتوبر/تشرين الأول الحالي.
طبعا هذه ليست أول مرة يتم بها الحديث عن حكومة "وحدة وطنية" في إسرائيل، وهي أحاديث لم تنفذ على الغالب، وفي عشرات الحالات. تاريخيا كان رئيس الوزراء الإسرائيلي الأول، ديفيد بن غوريون، يعارض أن تشمل حكوماته شراكة مع حزب "حيروت" المنبثق عن الحركة التصحيحية في الصهيونية والتي تعود جذورها لأفكار فلاديمير (زئيف) جابوتنسكي، وكل الحكومات التي ترأسها كانت بقيادة مركزية لحزب "ماباي" وحركة العمال، التيار المركزي في الحركة الصهيونية حتى انقلاب عام 1977 بقيادة مناحم بيغن.
لكن بعد اعتزال بن غوريون منصب رئاسة الوزراء واستلام ليفي إشكول للمنصب، بدأ تداول جملة من الأفكار التي حضرها بن غوريون، ومنها فكرة إشراك حزب حيروت في الحكومة، أو ما قد نسميه حكومات "الوحدة الوطنية".
فيما يتعدى التلويح بالفكرة أو طرحها في مناسبات مختلفة وللاستهلاك الشعبي، إلا أنها كذلك فكرة أنجزت سابقا عدة مرات في تاريخ إسرائيل؛ فقبل حرب يونيو/حزيران 1967 أقيمت حكومة "تكتل وطني" وضمت وزراء من الأحزاب المعارضة للحكومة، وعلى رأسهم مناحم بيغن للحكومة كوزير دون وزارة في حكومة رئيسها ليفي إشكول، وبعد ذلك ومع وفاة إشكول وتبوؤ غولدا مائير لرئاسة الوزراء أقيمت حكومة "وحدة وطنية" في ظل الأوضاع التي فرضتها حرب الاستنزاف على الحدود مع مصر.
وقد أقيمت حكومات وحدة وطنية أواسط ثمانينات القرن الماضي بعد حصول الحزبين الكبيرين، العمل والليكود، على عدد متساو من مقاعد البرلمان في انتخابات الكنيست، وهي الحكومة التي انهارت عام 1990 على خلفية مفاوضات أجراها زعيم حزب العمل شمعون بيريس مع الملك حسين حول الدخول في مفاوضات لتسوية القضية الفلسطينية مع وفد أردني- فلسطيني مشترك.
مع بداية القرن الحالي انضم حزب العمل وزعيمه بيريس الى حكومات برئاسة آرئيل شارون، وبعد ذلك، عام 2012، انضم شاؤول موفاز زعيم حزب "كاديما" آنذاك، وهو الحزب الذي أسسه شارون عام 2005 بعد انفصاله عن الليكود على خلفية مشروع الانسحاب أحادي الجانب من غزة.
المرة الأخيرة التي أقيمت بها حكومة وحدة وطنية في إسرائيل كانت عند تشكيل حكومة "وحدة وطنية" متكافئة في مايو/أيار 2020 واستمرت في العمل لسنة. آنذاك اتفق نتنياهو مع زعيم حزب "كاحول- لافان" (أزرق- أبيض) بيني غانتس على إقامة حكومة متكافئة من التيارين، وعلى أن يخلف غانتس نتنياهو في رئاسة الوزراء بعد مرور سنتين على تشكيل الحكومة، إلا أنها انهارت بعد سنة وشهر، وخرج غانتس خائبا من الحكومة وحاملا مرارة خداع نتنياهو له في مسألة التبادل على رئاسة الوزراء وقضايا خلافية أخرى.
تأتي المبادرة الحالية لإقامة حكومة وحدة وطنية بعد الإخفاق الإسرائيلي في حماية غلاف غزة وسكانه وجنودها هناك ومراكزها العسكرية في مداخل غزة، والنجاح الكبير لقوات “حماس” وكتائب القسام والجهاد الإسلامي في غزة بتخطي خطوط إيقاف النار منذ عام 1949، لأول مرة في تاريخ الصراع العربي-الإسرائيلي. وطبعا في سياق ما يروج له من ضرورة رص الصفوف للوقوف مع بعض "لأجل إحراز الانتصار" على “حماس” وغزة.