لا يمكن وصف بيان معرض فرانكفورت الدولي للكتاب، بإلغاء حفل تكريم الكاتبة الفلسطينية المقيمة في برلين عدنية شبلي، والذي كان مقررا الأسبوع المقبل، إلا بالجنون الخالص. فالسبب المعلن لهذا الإلغاء السافر هو أن رواية شبلي المكرّمة، "تفصيل صغير"، بعد فوزها بجائزة أدبية ألمانية كبرى، تتمحور حول حادثة وقعت فعلا في 1949، عندما أقدم جنود إسرائيليون على اغتصاب طفلة فلسطينية. ومنطق هذا التبرير يقول ببساطة إنه ممنوع، في هذا الوقت بالذات، إظهار الجندي الإسرائيلي بصورة القاتل والمعتدي والمغتصب. فهذه صفات يجب أن تلتصق بالفلسطيني وربما، في تفكير أصحاب القرار من منظمي المعرض، فإن مثل هذا التكريم يلحق الضرر في الجهود الحربية الإسرائيلية الجارية حاليا في غزة.
مثل هذا التبنّي الكامل للرواية الإسرائيلية، والذي زايدت فيه المؤسسة السياسية والإعلامية الألمانية، طوال الأيام الماضية منذ بدء الحرب، على الإسرائيليين أنفسهم، كان يجب أن ينتقل إلى الثقافة والإبداع، وكان لا بدّ بحسب مدير معرض فرانكفورت، من زيادة التمثيل والأنشطة الإسرائيلية في الدورة الحالية من معرض فرانكفورت، لتظهير هذا الموقف بوضوح أكبر، لمن لم يفهم تماما الرسالة من إلغاء تكريم الكاتبة الفلسطينية.
هذا السقوط الأخلاقي لمعرض فرانكفورت، والذي دفع مؤسسة إماراتية عريقة هي هيئة الكتاب في الشارقة، إلى الإعلان عن إلغاء مشاركتها في المعرض هذا العام، يتوازى مع الهاوية الأخلاقية السحيقة التي وقعت فيها المؤسسة السياسية الأوروبية
هذا السقوط الأخلاقي لمعرض فرانكفورت، والذي دفع مؤسسة إماراتية عريقة هي هيئة الكتاب في الشارقة، إلى الإعلان عن إلغاء مشاركتها في المعرض هذا العام، يتوازى مع الهاوية الأخلاقية السحيقة التي وقعت فيها، مع استثناءات قليلة، المؤسسة السياسية الأوروبية، التي لا تستطيع النظر إلى ما يتعرض له سكان غزة المدنيون من تقتيل وتهجير وحصار، عدّته منظمات دولية "جريمة حرب" موصوفة، ولا تستطيع رؤية، ولا الاعتراف بمقتل ألف طفل وامرأة على الأقلّ في غضون سبعة أيام فقط، ولا إزالة عائلات بأكملها من السجل المدني، ولا محو أحياء بأكملها عن الخارطة. لم تسمع هذه المؤسسات وصف مسؤولين إسرائيليين للفلسطينيين جميعا بـ "الحيوانات البشرية"، ولا رأت صور الأطفال الرضع المذبوحين في غزة، فهي لم تسمع سوى الرواية الإسرائيلية، ولم ترَ في حقيقة الأمر شيئا، سوى ما قال الإسرائيليون إنهم رأوه.
لطالما نظّرت الثقافة الغربية بقيم الموضوعية وعدم الانحياز وتبجيل الكرامة الإنسانية، والوقوف في وجه الحرب بأشكالها كافة، والتنديد بجميع مرتكبيها، وإعلاء مبادئ الأخلاق الإنسانية في أوقات الحرب، وحماية المدنيين، وهي من وضعت المواثيق الدولية التي ترعى جميع هذه القيم، لكنها اليوم تتخلّى عن هذا الإرث وتقرّر أن ترى بعين واحدة، وأن تسمع بأذن واحدة، وأن تنطق بنصف الحقيقة، إن نطقت بحقيقة أصلا.
كنا قد شهدنا قبل ذلك، في بدايات الحرب الروسية الأوكرانية، مؤسسات أوروبية وأميركية، تعاقب أدباء وفنانين روس مقيمين على أراضيها، لا بسبب تأييدهم لبوتين وحربه، بل لمجرد أنهم روس، وها نحن اليوم نرى المعادلة نفسها تتكرر مع الفلسطينيين. فها هي فرنسا دولة "العدالة والأخوة والمساواة"، تحظر المسيرات الداعمة لفلسطين وتمنع رفع علم فلسطين، بل ولعلها تجرّم بعد قليل مجرّد ذكر اسم فلسطين في أيّ مناسبة أو مكان، وثمة حديث عن عمل ألمانيا على قانون يقضي بسحب الجنسية ممن يظهرون دعمهم لفلسطين.
نسي الأوروبيون أن الاضطهاد والديكتاتورية والقتل المجاني، وكلّ ما عانوا منه خلال الحربين الكونيتين، تبدأ كلها بحرق الكتب وحظر حرية التعبير ومنع النقاش
كان لا بدّ لحالة الجنون التي كانت تجري على نطاق فلسطين المحتلة، خلال أشهر طويلة مؤلمة، حيث رأينا وشهدنا تصريحات عتاة المتطرفين الإسرائيليين من أمثال سموتريتش وبن غفير وننتانياهو، ضدّ حقّ الفلسطينيين في الوجود، وذلك الدعم الحكومي المطلق للمستوطنين خلال اعتداءاتهم على المواطنين الفلسطينيين العزل، كان لا بدّ من أن تتسع رقعة هذا الجنون بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، لتشمل العالم برمته، وكان لا بدّ أن ننتقل من خطاب يشجب التطرف (بكل أنواعه) والقتل (من أي جهة أتى)، إلى خطاب يتبنى بالكامل وبلا أيّ تحفظ حفلة الجنون الإسرائيلية التي تعمل قتلا وفتكا بأجساد الفلسطينيين في غزة.
هكذا، فإن منع كاتبة وكتاب، أو حظر أغنية أو فيلم، وغير ذلك من إجراءات تقع في مجال الأدب والثقافة والتعبير، يصبح منسجما ومتماهيا مع المواقف السياسية والأيديولوجية. وهكذا نجد أن بلدا مثل ألمانيا، لم يشف بعد من إرث الهولوكوست، وما اقترفه النظام النازي بحقّ يهود أوروبا، يقرر الانتقام من ماضيه الأسود والتطهّر منه على أجساد الأطفال الفلسطينيين، والأبعد من ذلك هو استغلال ما جرى يوم السابع من أكتوبر، للقضاء على مبدأ عدالة القضية الفلسطينية، وعلى كفاح الفلسطينيين المرير على مرّ عقود للتخلص من الاحتلال وإقامة دولتهم المستقلة، بل والأخطر من ذلك إعلان جميع العرب والمسلمين في أوروبا، غرباء دخلاء مشبوهين، لمجرد أنهم يناصرون ذلك الحقّ الفلسطيني.
نسي الأوروبيون أن الاضطهاد والديكتاتورية والقتل المجاني، وكلّ ما عانوا منه خلال الحربين الكونيتين، تبدأ كلها بحرق الكتب وحظر حرية التعبير ومنع النقاش، متغافلين أنهم على الأرجح بمثل هذه الإجراءات التعسفية المفتقدة إلى العقل والمنطق، يزرعون بذور كراهيات جديدة، وهويات قاتلة جديدة، سوف تتجاوز في نتائجها وآثارها كل ما شهدناه حتى الآن من صراعات وحروب.