سينما غزّة… بعيدا من كاميرات الأخبار قريبا من الإنسان
أفلام تغوص عميقا في مأساة الحرب والحصار
سينما غزّة… بعيدا من كاميرات الأخبار قريبا من الإنسان
على الرغم من توجّه الإعلام العربي والغربي نحو الحرب الدائرة حاليا في غزة، إلا أن القيمة الإنسانية والحقيقية للمدينة لا تظهر كاملة. من المؤسف أن نعرف غزة الآن فقط، وأن يعرفها العالم على وقع الحصار والعمليات العسكرية. هنا تصحّ مقولة بيير بورديو (1930-2002) "إن الحرب تخلقها الميديا لتخفي المجتمع، وتخفي ما وراءها." الانشغال العالمي الحالي يمضي على إيقاع الصواريخ والطائرات وسيارات الإسعاف التي تُسرع نحو المستشفيات، أو من خلال الاعتياد على مشاهد الشبان في نبش الركام لإخراج السكان الذين قُتلوا في بيوتهم، أو الأطفال الذين يهربون من مكان إلى آخر خوفا من القصف، أو ما يبدو مُشينا، تسجيل الكاميرات لأحدث آلات الحرب وهي تقصف أبنية مدنية.
التقطت السينما على مرّ السنوات أبعادا لا تنشغل بالحرب فقط، بل تمنح المحاصرين والمقصوفين، حيوات أخرى، أكثر عمقا وإدراكا، وقد شكلت في العشرين سنة الأخيرة مدخلا لفهم معاناة قطاع غزة، التي يجب التركيز عليها.
خَلقت غزة أبعادا جمالية ونفسية سامية عبر الكاميرات، تجذب منتجين ومخرجين فلسطينيين وعربا وغربيين للانخراط في رصدها، ومحاكاة مجتمعها وتصوير المدينة، التي لا تملك سينما بالأصل. استطاعت غزة جلب أفكار تخترق حصارها المرئي، وحصار كاميرات الأخبار ومحدوديتها، وجعلت حيوات عيشها مرصدا لحالة جمالية سامية، ينضج فيها الفن بمعناه الإنساني بوصفه طريقة للنظر والمحاكاة. خلال عشرين عاما، كانت غزة مسرحا لعشرات الأفلام الروائية والوثائقية، التي كانت في كل مرة توجّه إنذارا حادا حول محدوديّة الحياة، التي يعانيها أبناء القطاع ويعيشون فيها.
التقطت السينما على مرّ السنوات أبعادا لا تنشغل بالحرب فقط، بل منحت المحاصرين والمقصوفين، حيوات أخرى، أهم وأكثر عمقا وإدراكا
تجسّد الأفلام التي أنجزت عن غزة واقع الحياة اليومية القاسية، حيث الأطفال والنساء في الغالب أبطال العروض، تُنشئ غزة للسرد السينمائي بُعدا إنسانيا خالصا، ليس من كونها جذابة للحكاية كمدينة محاصرة ومُفقرة، بقدر ما يكون لكل فرد فيها عالمه الذي يحكيه، والذي لا يبدو مُمتعا فقط لكونه تراجيديا وحقيقا، بل لأنه صادق دون وضع أي قناع. والسرد لا يحدّه الزمن، والكاميرا لا تحمي أحدا. كل من رصد غزة أدرج استمرار أمر واحد: الاحتلال وقسوته، وأشكال الموت والحرمان.
دموع في غزة
فيلم وثائقي نرويجي أنتج في 2010 من إخراج فيبكي لوكبيرغ، يتمحور حول الحرب الإسرائيلية على غزة في 2008. يوثّق الفيلم اجتياح غزة المتكرّر وأوضاع سكانها، كان الفيلم مفاجئا عالميا لكنه هام على مستوى الزمن والإحاطة التي يقدمها، وهو وجهة نظر توثيقية شبه كلاسيكية عبر كوادر الكاميرا وتنقلاتها داخل أحياء غزة في أقسى حالات سكانها خوفا ورعبا. يعرض الوثائقي مشاهد مختلفة من حياة الفلسطينيين بدءا بمشاهد تكتّلهم المذعور جراء الخوف والحرب والقصف، وصولا إلى اكتشاف النهار على واقع الجثث العالقة تحت الركام. لا تختلف مواقف "دموع في غزة" عمّا نعاينه في الأخبار، لكنه ينقل المشاهد إلى وجهة نظر أكثر تأمّلية عبر الضحايا. يُغلق الوثائقي لغة الكاميرا، ليضع كادر الوجه الفلسطيني بدقّة أكبر، الكاميرا والسرد لغتا الفيلم، لكن السرد يأخذ حيزا كبيرا من الفيلم. يستحوذ الفيلم على المشاهد من حركة جسد الفلسطيني في التعامل مع مكانهِ المُنهار، أو المكان الذي حمل فيه طفله وهو مصاب، ثم يمنح وقتا للمشاهد ليُحضر الضحية إلى سردها. يصمت المخرج، كما هي الحال في أغلب الأفلام التوثيقية عن غزة. يختار الفيلم نماذج منوّعة من الحياة الفلسطينية، دون أن تملك أي قصة متنفّسا أو أملا في الحياة. تكمن أهمية هذا الوثائقي في أنه يصوّر المعاناة خلال الحرب وبعد توقّفها، قياسا لآثارها على البشر، وقدراتهم على مواصلة العيش.
إيراسموس في غزة
يرافق وثائقي "إيراسموس في غزة" (Erasmus in Gaza) (2022)، للمخرجَين ماتيو ديلبو وكيارا أفيساني، طبيبا إيطاليا اختار غزة عوضا عن أي مدينة اخرى في العالم للدراسة. يدور الفيلم حول مرافقة المخرجين لتجربة طبيب إيطالي داخل الأراضي الفلسطينية، من أجل دراسة تخصصية في جراحة إصابات الحرب (الرصاص المتفجّر) والتعرف على سبل العلاج والتعلم. يبدأ الفيلم من إيطاليا، والرحلة الطويلة والصعبة للوصول إلى غزة، صعوبات المرور ومحاولات الحصول على موافقات والعمل داخل القطاع المحاصر. البداية من إيطاليا تُظهر الفرح والشغف لدى ريكاردو إيراسموس، وصولا لاستقبال الإدارة الطبية له في غزة. يبدأ تحوّل الشخصية منذ اللحظات التي يواجه فيها الطبيب الأوضاع القاسية، ندرة الكهرباء، وعدم توافر الإنترنت بشكل جيد، خاصة بعد الوصول الصعب إلى داخل المدينة. لكن إيراسموس خلال الفيلم يكتشف أن الرصاص الذي يبحث عن معرفة تأثيره سيدمّر طاقاته النفسية وتوازنه السلوكي، وسيضعه أمام تجربة مأساوية.
تكمن أهمية "دموع في غزة" في أنه يصوّر المعاناة خلال الحرب وبعد توقّفها، قياسا لآثارها على البشر، وقدراتهم على مواصلة العيش
خلال الفيلم يتغيّر وجه ريكاردو، فيبدو حزينا مرتبكا، الخوف ليس من واقع يومي يمكن الاعتياد عليه، لكن مما يواجه من هم حوله من سكان غزة، ثم وصول الحرب إلى القطاع الصحي. نعرف مع ريكاردو درجات الحرب وأثرها على الأطباء، لم يكُن ريكاردو ينوي التعامل مع كل هذا الكم من الرصاص الذي من الممكن دراسته، ولا حجم الشظايا التي تخترق أجساد أبناء غزة. الفيلم يُركّز بدرجة كبيرة على التحولات، وكأننا نراقب حوارا داخليا وخارجيا لحياة طبيب اختار غزة للتعلّم، فأصبحت أهم تجربة في حياته، خاصة الهلع الذي أصابه والصدمة النفسية من كم المصابين والخائفين الذين عاينهم. واللافت في "إيراسموس في غزة" كيف استطاع شبان القطاع استيعاب الطبيب الإيطالي، ومساعدته للخروج من صدمة كل يوم. وحدته في الغرفة، واتصاله مع ذويه لم يكونا كافيين، ولا شرحُه لمعاناته أمام المخرجين. وتكمن التجربة الغنية في المعيش الحقيقي، الذي نعاينه مع ريكاردو خلال الفيلم، والتي تظهر دعوة لمعايشة حسّية مع أي زائر لغزة، ليتوحّد مع معاناة أهلها. لا يظهر القطاع في الفيلم إلا بوصفه مأساة، على طبيب التعايش معها والانخراط فيها، والأهم أنه لن يملك فرصة إلا أن يكون حقيقيا، وهو يعاين صعوبة الحياة، التي وضع نفسه فيها، وهو يخرج منها ويتشوّق للعودة إليها مرة أخرى.
غزة مونامور
منذ نهاية التسعينات والكاميرات تُلاحق مجتمع غزة في المَقتلة التي يتعرّض لها في الحرب، أو في صعوبة أيام الحصار. وحينما تظهر بعنادها وحدّة شوكتها تظهر عبر نشرات الأخبار، الواقع أن فيلم "غزة مونامور" (2020) للأخوين طرزان وعرب ناصر، هو رؤية أخرى للمنتَج الفني داخل غزة، بعيدا من الحكاية الواقعية أو التعايش معها. الفيلم الذي يظهر الفلسطيني في غزة بيومياته الصعبة بطريقة درامية، تحمل معانٍ رمزية وسينمائية عالية المستوى. يصوّر الفيلم مآسي الحرب من خلال تفاصيل الشخصيات والكوادر المظلمة. ويتّصل السرد دراميا مع أحلام شبّان غزة، وطريقة حياتهم اليومية، وتشابه الذائقة الفلسطينية الغزاوية مع ذائقة العرب كلهم، من مشاق الحياة اليومية إلى السلع التي تصل بأسعار مضاعفة جدا لأنها تمر عبر الأنفاق. ويسرد الفيلم صعوبات الإنفاق من أجل أي شيء في مجتمع لا يملك أي بنى تحتية أو قدرة على شراء مواد أساسية، وهو يحمل معنى رمزيا واضحا، حتى في مواجهة سلطة منغلقة دينيا واجتماعيا، باحثا في تفاصيل المجتمع الغزّي من خلال علاقة حب متأخرة بالنسبة إلى عمر الشخصيات. تجربة الفيلم رائدة لفهم الحياة العادية وآلامها، وكيف تبتكر الشخصيات حياتها وهي تلوك مصطلحات الحرب من دون أن تظهر الحرب أبدا. لا يظهر الفيلم الحرب كتجربة وحيدة لابن غزة، بل الحياة بجُلّها دون أن يظهر العنف، بل الانكسار، الحلم بدلا من الموت. والأهم كيف يتشكل المجتمع أحيانا كرهينة ويتوازن، وهو يواجه عشرات السلطات التي تضايقه وتقضّ حريته وأحلامه. خاصة أن قصة الفيلم تدور حول حدث مفاجئ، هو إيجاد تمثال أثري في البحر. البحر الذي لا ينال الفلسطيني من حقوقه فيه إلا مساحة صغيرة جدا. في الفيلم يعلق الفلسطيني في الصمت الطويل ليفكر في أي شيء، في ألم فقد الصديق، في سماع الموسيقى التي تتنوع خلال الفيلم. لا يضيق على ابن غزة المكان طالما يستطيع أن يكون متأملا وفاضلا في أحلامه. الفيلم لم يصور في غزة، بل جرت محاكاة غزة في مكانٍ آخر، لكنه ينجح في تصوير الشخصية الغزاوية بعيدا من ألمها، بل بفنية وسمو بسيطين.
اللافت في "إيراسموس في غزة" كيف استطاع شبان القطاع استيعاب الطبيب الإيطالي، ومساعدته للخروج من صدمة كل يوم
ولد في غزة
أحد التحف السينمائية الوثائقية، للمخرج الأرجنتيني إرنان زين ورفيق دربه الصحفي الإسباني جون سيستياغا،واللذين لم يوثّقا غزة بعد الحرب (2012) فحسب، بل صورا المشهدية اليومية لأطفال وفتيان، هم أبناء الحرب والأكثر تضرّرا منها. وقد حرص المخرج الأرجنتينيحرص على أن تكون كوادر الفيلم ولقطاته كلها سينمائية، فدفع كل شخصية غزاوية لمجالها الحركي، ورافق منذ البداية طفلا يصوره بلقطات توحي بأنه فارس، لكنه يجرّ عربة خردوات وقمامة قابلة لإعادة التكرير، جاعلا للصورة المتوقعة مخيالا سينمائيا مذهلا. لا يظهر أي ممثل ولا سارد للنص، باستثناء مرور كلمات إحصائية تفضح مستوى الكارثة في غزة. تتغير الشخصيات وتتغير أحاديثها عبر الفيلم. يقود طفل الكاميرا، نحو البيت الذي فقد أهله فيه، ثم لا يتوانى عن البكاء ثم الانتقال للعب. حجم المرارة واختلاط عبث الحياة في كل مشهد يحولان الوثائقي إلى شهادة سينمائية.
تتكثف المشاهد وتتقطّع دوما. يحاول المخرج أن يكون الوثائقي أكثر جدية سينمائيا، فيكسر الزمن مرارا ويبطئه، محاولا دفع المشاهد لاستدراك التفاصيل، فقر الأطفال، رداءة الملابس وتلفها أحيانا. البطء في كل مشهد هو بمثابة قصة، مقتل الوقت الذي يمر دون أن يمتلك ضحايا الحروب الإسرائيلية أي معنى حياتي حقيقي سوى النجاة والاكتفاء. يبدأ كل مشهد في الفيلم بناء على اسم الشخصية وحركتها، بدءا من جامع المخلفات الذي يبحث عن أثقل قذيفة لم تتفتت بغرض بيعها، وصولا إلى من فقد أباه وهو سائق سيارة إسعاف. المشاهد تعرض الرحلة التي يقضيها الطفل الفلسطيني لشرح جروحه الجسدية، وتضرر أعصابه وارتباطات أطرافه بحركته. يبطئ الفيلم السرد عبر الصورة، ليصور نتائج حرب كاسرة وقاهرة عام 2013، على الشخصيات التي يبدو حديثها أمام الكاميرات كأنه أمام الذات، حتى الطفل المُعنّف بات منغمرا بعرض ذاته وآلامه دون أي حاجز، ودون أن تمنحه الكاميرا آملا في النجاة.