كلما تعرّضتْ غزّة للقصف -وهي المُحاصَرة في أغرب السجون المعاصرة وأفدحها منذ 2007- تبزغُ في الذّاكرة الفنّية المُلازمِة لوقائع اليومي والتاريخي جداريةُ غرنيكا لبيكاسو (مع أنّ واقعيّة الحرب أبلغ من أيّ عمل فنّي أو مَجاز). جداريةُ غرنيكا التي استغرق إنجازها 35 يوما بطلب من حكومة الجمهورية الإسبانية الثانية بتاريخ يناير/ كانون الثاني 1937، بُغيةَ عرضها في الجناح الإسباني ضمن معرض باريس الدولي للتقنيات والفنون في الحياة المعاصرة بالسنة ذاتها، وَمَنْشَأُ فكرتها أن تتمثّل تضاعيف مأساة القصف الماحق لبلدة غرنيكا الباسكية (الحصن الشمالي لحركة المقاومة الجمهورية وأحد مراكز ثقافة الباسك) من طرف طائراتِ ألمانيا وإيطاليا الداعمتين للقومّيين الإسبان في فترة الحرب الأهلية 26 أبريل/ نيسان 1937 والهدف هو اجتثاث ربيع المقاومة الزاحف، وهذا ما تحقّق من تدمير وحشيّ شامل أتى على أهل بلدة غرنيكا بكاملها.
اشتهرتْ لوحاتٌ خلّدتْ هذا النزوع من تراجيديا الحرب قبل جدارية "غرنيكا" -المُنجزة وفق الطلب وليس بمحض مبادرة شخصية من بيكاسو- مثل لوحة مواطنه فرانسيسكو دي غويا "3 مايو 1808" التي أنجزها عام 1814 وهي تؤرخ لمقاومة الإسبّان ضد غزو نابوليون بونابارت، ومِثلُها لوحة "مصائب الحرب"... كذلك سبقتْ جدارية غرنيكا بسنةٍ لوحةُ السريالي سلفادور دالي ذات العنوان المركّب البناء الناعم مع الفاصوليا المسلوقة (هاجس الحرب الأهلية( 1936"، والغريبُ زعْمُه بأنه رسَمها ستة شهور قبل اندلاع الحرب الأهلية الإسبانية فيما يشبه تنبّؤا مُدهشا، زِدْ على ذلك مفارقة أن يكون سلفادور دالي نفسه من مُناصري الدكتاتور فرانكو ضدّ الجمهوريين، غير أنّ هذا العمل الفني بالذات يصوّر كارثة الحرب من منظور أثرها المأساوي على الإنسان والمعمار أكثر مما ينحاز فيها إلى طرف دون آخر كما يتجسّد في تشظّي الأعضاء البشرية وانشطارها الدموي، مّما يذكّرنا وفق المؤرّخ الفنّي ميغيل كالفو سانتوس بلوحتيْ فرانسيسكو دي غويا: "زحل يلتهم أطفاله" و"العملاق" وَكِلْتَاهُمَا تُشخّصان بشاعة الحرب من زاوية نفسية مرعبة تُعلّق وحشيّة الإنسان على مشجب اللامعقول.