بلزاك بين الأمس واليوم

بلزاك بين الأمس واليوم

كانت حروب الروائي الفرنسي بلزاك مع الصحافة الفرنسية طويلة ومؤذية، ليس على مستوى مقالاته التي منعت فحسب، بل نصوصه الروائية الغزيرة التي امتازت بواقعية عالية، بل هي الأكثر واقعية بين أدباء جيله الرومانسيين. بلزاك ذلك القروي الذي أصر يوما على الكتابة مخالفا رأي والده في البحث عن وظيفة يعيش منها بعد تخرجه، ومع إصراره على الكتابة رضخ والده، وترك القرية إلى باريس المحكومة بالدهشة، إلا أن رؤية بلزاك عنها كانت مختلفة.

ويبدو أن زعيم الواقعية بلزاك كان جادا ومتأملا وواعيا لكل ما حوله منذ مطلع شبابه، وهو يتجول على أرصفة باريس مخترقا أحياءها البسيطة طوال يومه، مرورا بأحياء العائلات الفقيرة، حتى يعود إلى مسكنه المتواضع كاتبا طوال المساء قصصا باءت بالفشل، فمن يقرأ ما كُتب عنه في أرشيف الصحافة الفرنسية، يجد الصحفيون حينها، يبالغون في الكتابة عنه بقسوة، بدءا من الصحفي الناقد، مرورا بالصحفي المحرر، انتهاء بالصحفي الكاتب...

كان بلزاك يعرف جيدا أنه يعيش عصرا معروفا برومانسيته وعاداته الاجتماعية المرفهة، ويصر على الواقعية، وتعريته سلبيات المجتمع ونفاقه، حتى أخذت الصحف تمنع نشر مقالاته وقصصه، وهي مورده المالي الوحيد، ومع ذلك لم يتوقف عن التطلّع إلى حرية التعبير، أمام الرقابة التحريرية الصحفية.

ويبدو أن القضايا الإنسانية لم ترغب في تركه، فحاول مرتين إصدار دوريته أو مجلته الخاصة، التي كتب فيها مقالات متعدّدة بنفسه، عنونها بمقالات باريس، منها مقالات تحليلية، ومنها نقدية، حتى أغلقت. فخسر كثيرا، ودخل في حزن عميق، ووجدتُّ ذلك من خلال رسائله لأخته في الفترة نفسها، والتي عبّر فيها عن سوء حظه في الكتابة وحتى في الحب، فلا استقرار لعلاقاته العاطفية، وكلّ من أحببهنّ تركنه بسبب آرائه.

أما اليوم فيرى النقاد الفرنسيون أن مجلة بلزاك تلك التي أصدر فيها مقالاته، هي الأهم والأروع من حيث التحليل والدقة، وأنه يبقى المخترع الأول للعمود اليومي


أما اليوم فيرى النقاد الفرنسيون أن مجلة بلزاك تلك التي أصدر فيها مقالاته، هي الأهم والأروع من حيث التحليل والدقة، وأنه وعلى الرغم من عنف الصحافة في التعامل معه، وإغلاق الحكومة مجلته.. يبقى المخترع الأول للعمود اليومي الذي يتناول الشؤون الراهنة، كما أنه يمثل أول خيبة أمل للطبقة الرومانسية المثقفة.

دائما الزمن يمنح الحقيقي حقه، وبلزاك القروي المثقف كان حقيقيا، والحقيقي لا صوت له في مجتمعه المدني المرفه، فتحدّى ذلك بغزارة الإنتاج، ونصوصه الطويلة التي انتقدت ورفضت، فكانت الصحافة تسيئ إلى سمعته بأن في نصوصه أوصاف لا تليق بالمجتمع، وقد نجحت تلك الانتقادات في تشويه سمعته وصورته.

 الأسبوع الماضي فرغت من قراءة روايته "الأوهام المفقودة"، ولاحظت مدى نقده غير المبطن للصحافة وحدود هذه المهنة، وكذلك روايته "الأب غوريو"، موضحا في سرده الرائع كيف يفسد المال الإنسان الذي يصر على مواصلة صعوده الاجتماعي، ويعني بالصعود المادي المدمر، من خلال شخصية الأب غوريو وابنتيه الجاحدتين.

ولكن لأن الروائي بلزاك صحفي لامع، فقد جاء ردّه أعنف منهم، واصفا الصحافة برمتها بأنها تبيع الكلام، وأن الصحافة تسلط الضوء على من تريد وقتما تريد، وتتخلى عنه في الوقت المحدد، وأن آراء الصحافة لا تخدم أحدا، سوى أصحابها، وأنها تغرق في الإثارة.. ومن بين مقالاته، مقال يطرح فيه الأسئلة علنا:

هل الصحفيون يتمتعون بالحرية الكافية للكتابة؟

وهل يمكننا أن نثق بالصحافة؟ وهل تدافع الصحافة عن الشعب؟

أونريه بلزاك روائي القرن التاسع عشر، ما زالت أعماله تسعد قراء اليوم، قراء القرن الحادي والعشرين، فبعد أكثر من 170 سنة على وفاته، تغيرت الصحافة الفرنسية، وكان هو أحد أسباب التغيير، إن لم يكن المغير الأول، وإن استغرق الأمر زمنا، فاليوم تعمل الصحف الفرنسية على إصدار مختارات قصيرة من روايته الأبرز "الأوهام المفقودة"، تنشرها متسلسلة في ملحقاتها الثقافية، كما اقتبست رواياته في السينما والإذاعة والمسرح، ليتخلد بصدقه وبالواقعية التي امتاز بها، بعد أن نادى بخلق عالم حقيقي من خلال الكتابة، لفهم البشر وسلوكياتهم ومشكلاتهم الاجتماعية، ولهذا السبب يعتبر السواد الأعظم من النقاد في صحافة اليوم أن عمله "الكوميديا البشرية" بات جزءا من دورة الحياة البشرية على مستوى الكرة الأرضية.

font change