أنتمي إلى جيل عراقي شهد ثلاثة حروب في أقل من خمسة وعشرين عاما. وفيما بعد عاش ما يشبه الحرب الأهلية بعد 2003. وكانت آخر الحروب في بلدي الحرب ضد تنظيم "داعش" الإرهابي، ويبدو أنها كانت الحرب الوحيدة التي كنا فيها على حق ضد قوى التطرف والإرهاب. وكان من حسناتها توحيد المجتمع العراقي. وهي الفرصة التي ضيعتها الحكومات والطبقة السياسية عندما فشلت في استثمار النصر الحقيقي الذي حققه العراقيون في تلك الحرب.
وبذلك يكون العراقيون من أكثر شعوب المنطقة معايشة للحرب ومأساتها، فقد كانوا حطبها وجربوا وتعايشوا مع خساراتها. ولم يعرفوا معنى الانتصار فيها إلا في الشعارات والخطابات الحماسية للزعيم الأوحد؛ فالنصر في مفهوم الأنظمة الشمولية أو مجتمعات الزعامات، يكون محصورا بدلالة واحدة، وهي بقاء هذا القائد في سدة الحكم، أو بقاء ذلك الزعيم حيا. ولا يهم ضحايا الحروب من شهداء وأرامل وأيتام وعسكرة المجتمع. وقاست مجتمعاتنا الأمرين، قلق الحرب وخساراتها، وحيرة السؤال عن الجدوى منها. فلا أحد يكترث بضحاياها، ولا محاكمة لنتائجها.
حتى شوارعنا لم تعد قادرة على استيعاب لافتات القتلى، ولا صور الزعماء السياسيين التي ترفع مع شعاراتهم وشاراتهم بعلامات النصر على الأعداء. وتكمن المفارقة في واقع تلك المناطق، فهي تعاني من دمار في البنى التحتية، على الرغم من الأموال الضخمة التي خصصت لها؛ فالفساد وسوء الإدارة كانا عائقين أمام النهوض بالواقع الخدمي للكثير من مناطق العراق.
وبالنتيجة تشارك الفساد والحرب في دمار العراق، لكن الخطأ الأكبر ضياع فرصة تحويل الانتصار في الحرب إلى منطلق لتحقيق الاجماع الوطني في رفض الإرهاب والعنف، وعدم قدرة الطبقة الحاكمة على توظيف منجز النصر لإعادة الثقة بين المواطن والدولة. بل حدث عكس ذلك، إذ تحول النصرُ إلى فرصة لظهور طبقة اجتماعية طفيلية من مافيات وتجار الحروب.
في العراق ولبنان يتشابه المشهد؛ فالذين خلقوا الحرب بسوء إدارتهم وفسادهم، وبمشاركة أصحاب الخطاب الطائفي التحريضي ضد الدولة، تحولوا إلى زعماء كتل سياسية. فلا المجتمع عاقبهم على حماقاتهم السياسية، ولا المؤسسات القضائية حملتهم مسؤولية التقصير. وهنا يعيد العراق السيناريو اللبناني؛ فقادة الحرب الأهلية أغلبهم الزعماء السياسيون الآن، بالأمس كانوا يتقابلون في جبهات القتال، واليوم يجلسون على طاولة التحاور السياسي. فهم لم يتغيروا ولم يتحملوا المسؤولية التاريخية عن خسارات حروبهم العَبَثية التي كان أبناء الطائفة ضحاياها.