العيش تحت القصف في غزّة: مشرّدون في ليل الحربhttps://www.majalla.com/node/301876/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%8A%D8%B4-%D8%AA%D8%AD%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B5%D9%81-%D9%81%D9%8A-%D8%BA%D8%B2%D9%91%D8%A9-%D9%85%D8%B4%D8%B1%D9%91%D8%AF%D9%88%D9%86-%D9%81%D9%8A-%D9%84%D9%8A%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D8%A8
غزة: حين تبدأ الحرب، تصبح للحياة في غزة بوصلة أخرى، اتجاهات مهما اختلفت، فجميعها يؤدّي إلى الموت.
في صباح السابع من اكتوبر/تشرين الأول، شنت "حماس" هجوما مباغتا على مناطق يسيطر عليها الاحتلال الإسرائيلي، واخترقت الحدود، محققة اختراقا أمنيا لم يشهده تاريخ الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين.
كنا فرحين بما حدث، لكننا كنا نعلم أن لهذا التجرؤ ثمنا كبيرا. بالفعل سارعت إسرائيل إلى إعلان حالة الحرب، ولم تسمّ ما سيحدث تصعيدا أو حملة عسكرية، كانت حالة حرب، بالفعل هي مختلفة عما مضى.
في المواجهات السابقة المتكرّرة، كنت أشعر أنني طالما مكثت في منزلي، فسأكون وعائلتي في أمان، خاصة أن بيتي بعيد بمسافة معقولة عن الأماكن التي يدّعي الاحتلال أنه يستهدفها. أما هذه المرة، فأشعر أنني في ساحة حرب حقيقية، أنا وعائلتي، عزلا، نركض تائهين وسط القذائف المرعبة، المدمرة.
الخطر هذه المرة مختلف، خطر يوشك على الإجهاز على جميع سكان قطاع غزة. فلا مكان يشهد له بالأمان هذه المرة. خاصة أن جيش الاحتلال يستخدم أسلحة جديدة، بأصوات مغايرة، لا يمكن وصفها، سوى أنها آتية من الجحيم
الخطر هذه المرة مختلف، خطر يوشك على الإجهاز على جميع سكان قطاع غزة. فلا مكان يشهد له بالأمان هذه المرة. خاصة أن جيش الاحتلال يستخدم أسلحة جديدة، بأصوات مغايرة، أصوات لا يمكن وصفها، سوى أنها آتية من الجحيم.
التقاطات
في الحروب السابقة كانت هنالك يوميات، أقصد التقاطات معدودة، يمكن الحديث عنها، عن فاجعة هنا، أو كارثة هناك تحدث في حق المدنيين العزّل، أما في هذه الحرب، فالأحداث تمرّ بالدقيقة، والكوارث لا تتوقف، ففي كل لحظة هنالك بيت يُدمّر على رؤوس ساكنيه. الملامح تصبح ثانية شاحبة، من هول القصف، السقوف تتساقط فوق رؤوس الأمهات والأطفال الآمنين.
طمس
في المشهد التالي لقصف المنزل، لا يمكن أن تعرف ملامح الأفراد القاطنين فيه، تسارع فرق الإسعاف المحدودة، لاستخراج الجثث من تحت الركام، العائلة المستهدفة يصبح معظمها بلا ملامح، كومة من اللحم المفتوك به. في الغالب لا أحد ينجو، فالكثير من البيوت التي قصفت، تحول جميع قاطنيها، إلى كومة لحم في لحظة. لكن من يبقى على قيد الحياة، وهذا نادرا ما يحدث، يُحمل وقد طمست ملامحه بالتراب الأبيض، الوجوه الناجية تتحول إلى أشباح، لا يمكن تحديد هويتها، والتراب يملأ الصدور، يخنقها.
حصار محكم
خلال هذه الحرب، للمرة الأولى، تقطع قوات الاحتلال الكهرباء عن غزة، وكذلك إمدادات المياه، لإحكام حصار غير قانوني، يقع تحت بند جرائم الحرب، بإقرار قوانين الحرب الدولية.
وللمرة الأولى، تضرب طائرات الاحتلال مبنى الاتصالات الفلسطينية، وهذا يعني إحكام عزل المدنيين في غزة عن العالم، تمهيدا للمزيد من الجرائم.
تبدو المشاعر في ظل التفكير في مستقبل هذه الحرب، غاية في البشاعة، إنه الرعب مما يحدث، ومما سيأتي. هنا يعيش أكثر من مليوني فلسطيني تحت هول آلات عسكرية وطائرات متطورة، تملأ السماء في النهار، تنكل كما يحلو لها، تحت غطاء ودعم دوليين، فمن يدفع الثمن هم السكان العزّل الضعفاء، أهل قطاع غزة، فحتى هذه اللحظة، وخلال بضعة أيام من القصف، فاق عدد الضحايا الألف، ناهيك بآلاف الجرحى.
احتمالات
يأتي الليل في الحرب، وتكون صورة غزة شاحبة، شديدة العتمة، بحيث يخاف الواحد منا أن ينظر من نافذة منزله، يخاف أن يفكر في ما يحدث في الخارج، أو في ما سيحدث بعد قليل.
كل الاحتمالات في هذه الجولة سيئة، فنحن محاصرون دون أية حيلة، بلا كهرباء، بكمية ماء توشك على النفاد، وليلنا الرهيب تكسوه الطائرات العملاقة، التي تتلذّذ في انتقاء أهدافها، لربما يكون بيتا بعيدا، أو قريبا من منزلي، أو البيت الملاصق، أو حتى منزلي. حقيقة، كل هذه الاحتمالات تضعنا على طاولة أفكار، كلها تشي بأن الفلسطينيين هنا يتعرضون لحرب إبادة لا تعرف التمييز.
الاحتماء بحائط
في الأمس كانت جولة القصف في حيّ متاخم لمنزلي، إنه حي الكرامة شمال غزة، ماذا فعلت الطائرات الإسرائيلية خلال ساعتين متواصلتين من القصف؟ أخبركم قبل أن أصف بأنني عاجز، عاجز عن تقديم المشهد كما حدث.
الطائرات الكثيفة تجمعت في مكان واحد، العتمة حالكة، الكهرباء غابت عن شمال غزة بأكمله، بدأت أول ضربة جوية، وكنت قد أوصدت نوافذ المنزل، حتى لا تطالنا الشظايا المتناثرة، وجلست وعائلتي في رواق طويل داخل المنزل، احتماء من الخطر، أو ظنا منا بذلك. في الحرب يحتمي الإنسان في ظلّ حائط قد ينهار عليه في أي لحظة.
صوت
بعد قليل تتكثف الضربات، بوتيرة ثابتة، في كل دقيقة ضربة جوية على المكان نفسه، دويّ لا يحتمل، يكاد يثقب القلب من شدّته، وبينما أحدثكم عن لحظة القصف، أشعر أن صوت زجاج يتكسر في داخلي، أشياء كثيرة تنهار، لا أعرف كيف ألملمها من جديد. لا أتحدث عن خوف، فكلنا جرّب الخوف، لكنني أحاول تسجيل رد فعلي، انكماش نخاعي الشوكي، بصورة لا إرادية، في تلك اللحظة التي تلعلع فيها القذيفة، وفكرة مكان السقوط تبقى الأكثر رعبا، فمن التوقعات الواردة أن هذه القذيفة قد يكون اتجاهها بيتي.
يأتي الليل في الحرب، وتكون صورة غزة شاحبة، شديدة العتمة، بحيث يخاف الواحد منا أن ينظر من نافذة منزله، يخاف أن يفكر في ما يحدث في الخارج، أو في ما سيحدث بعد قليل
أقف لألمح من طرف النافذة ما يحدث، مشهد سقوط الصاروخ مفجع، لهيب وضوء في مشهد بخلفية سوداء، يشبه الصورة التي كنا نراها لاحتراق عمق الشمس، أو الماغما البركانية، لكن لا دفء في ما يحدث إطلاقا، هنالك في المكان الذي يتعرض للقصف، موت ولا شيء آخر.
محرقة
نسمع صراخ الناس داخل المباني، الاستغاثات بعد كل ضربة، وصورة عمود الدخان بعد اللهب، شحوب يغطي على شحوب. هناك أناس احتموا في الطابق السفلي من العمارة، لكنّ الضربات لا ترحم، ولا تهادن، وعلى مدار ساعتين، نال المربع السكني، أكثر من مئة ضربة فتاكة، وكانت النتيجة محرقة، لا يمكن وصفها بغير ذلك، فتحوّل المكان إلى كرة من اللهب، والسقوف المردومة بعضها فوق بعض، وأشلاء المدنيين تتطاير في كل مكان، في ظل عدم قدرة طواقم الإسعاف على الدخول، لقد حُشر الناس بعد منتصف الليل الحالك، ليكونوا فرائس سهلة لآلة الحرب، وقذائف الفوسفور السامة المحرّمة دوليا.
أما من تمكنوا من النجاة، بأعجوبة، وبتدخل طواقم الصليب الأحمر الدولية في غزة، فقد تشرّدوا في ليل الحرب، يحملون أوراقهم الثبوتية، مشاة، بلا طريق أو هدف، لا يرجون شيئا سوى النجاة. لقد شاهدت النزوح الجماعي لسكان المنطقة، مشهد يدمي القلب، يحمل الكثير من الخذلان.
بقجة النكبة
هنا، في الحرب، يجهز كل رب أسرة، حقيبة صغيرة، تعيد إلى الأذهان بقجة النكبة، يضع فيها أوراقه الثبوتية، شهادات الميلاد، وبعض النقود، هذه توضع عند مدخل المنزل، ففي أية لحظة، يتحتم على الأسرة الهرع للإخلاء، إما لأن المنزل ذاته ضرب بصاروخ تحذيري "زنانة" من قبل الاحتلال، أو أن مربعا سكنيا يستعد للإخلاء خلال دقائق، تمهيدا لمحوه. وهذا ما حدث في حي الرمال، وبيت حانون، وشارع الرشيد، وخان يونس. فكرة حمل الهوية، ذاتها قد تكون كوميدية، فأي هوية ستتبقى للإنسان، بعد هدم منزله وتشريده وعائلته، وترى، من أين يطرق باب الحياة بعدها؟
أما من تمكنوا من النجاة بأعجوبة، فقد تشرّدوا في ليل الحرب، يحملون أوراقهم الثبوتية، مشاة، بلا طريق أو هدف، لا يرجون شيئا سوى النجاة
مسح معالم غزة
لا أخبركم بأن غزة أجمل مدينة، ولا الأكثر تطورا، فهي مدينة متعددة الأساليب في الحياة، معظم أهلها فقراء، لكن هنا، حي الرمال، يعتبر الأرقى والأجمل في القطاع. ففيه المحال الفارهة والمطاعم الحديثة، والمولات التجارية المتنوعة، هذا معلم من معالم غزة الجمالية، لكن الاحتلال أمر جميع سكان هذا الحي بالإخلاء قبل يومين، ومسح المكان عن بكرة أبيه، لقد تحول بالفعل إلى كومة ردم، غابت الصورة الجميلة في غزة، وانمسحت ذكريات كبيرة مع الأماكن. الآن لدي هاجس، هذا إن نجوت، بأنني سأواجه دمار غزة، وانمحاء صورتها الجميلة، وجها لوجه، فكيف يتحمل المرء أن يواجه سرقة ذاكرته عنوة؟ لقد شاهدت مصادفة صورة على مواقع التواصل الاجتماعي، وصرت أتألم من هول الخراب الحادث في المكان بفعل القصف الإسرائيلي، لم تعد للحيّ أية ملامح، لكن المفاجأة كانت حينما قرأت التعليق المرافق للصورة، لقد كان هذا المكان مدخل الحي الذي تقطن فيه أمي، المكان الذي لطالما وطئته بأقدامي، لم أعد أعرفه.
مرّت أيام قليلة على بدء الحرب، لكننا نشعر هنا بأننا على وشك السقوط، نهرب من قلقنا، ومن السيناريو المحتمل، عبر إيقاف دوران العقل، فهل هذا ممكن؟ إننا في الحرب. هذا أمر لا مفر منه، وما نشاهده بأم العين أن هناك توجها لدى إسرائيل بمحو ملامح غزة، وتهجير سكانها، أو مسحهم عن الخريطة بأكملها.