يواجه صندوق النقد الدولي منذ نشأته انتقادات متنوعة، أفضل من صوّب عليها الاقتصادي جوزف ستيغليتز حامل جائزة نوبل في الاقتصاد لعام 2001 في كتابه "العولمة وقبائحها"، ومن أهم الانتقادات توزيع حقوق التصويت في مجلس ادارة الصندوق وجنسية المدير العام وعملياته وكيفية اتخاذ القرارات في شأنها وسوى ذلك من أمور.
فقرارات الصندوق وتوصياته غالبا ما تصدر نتيجة مداولات سرية، الأمر الذي يعرضه للارتياب، وهي تتعارض في كثير من الاحيان مع وجهات نظر مؤسسات اقليمية ودولية وافكارها، ومنظمات تابعة للامم المتحدة أيضا.
كذلك، لا يؤدي الصندوق حسابا عن ادارته الى المواطنين الذين يمولونه من مختلف دول العالم، وهو يودع تقاريره وزارات المال والمصارف المركزية، ودول الأخيرة تمارس رقابتها على أساس نظام معقد من التصويت يعكس قدرتها الاقتصادية عند انتهاء الحرب العالمية الثانية مع تعديلات طفيفة.
قرارات الصندوق وسياساته مبنية على تعصب أعمى لإيديولوجيا السوق، وعلى فكرة ان الوجع ضروري للوصول الى اقتصاد مزدهر.
يعمل المسؤولون عن ادارة الصندوق النقد بعقلية فوقية، فهم يثقون بأنهم يعرفون أفضل من البلدان النامية ما هو الأصلح لها، ويعتبرون ان على المسؤولين فيها القبول بكل إملاءاتهم عندما يلجأون الى الاقتراض من الصندوق حتى لا يسيئوا استخدام هذه القروض كما أساؤوا إدارة اقتصاد بلادهم.
ولا يأبه اقتصاديو الصندوق لسماع آراء الاخرين مهما بلغ شأنهم ومعلوماتهم وتجردهم، فهم مؤمنون بأنهم يمتلكون احتكار النصائح الطبية، والوصفات الجاهزة، وقراراتهم مشوبة بالتناقض وهم يدعون أنها فوق السياسة، لكن من الواضح أن السياسة تلعب دورا كبيرا في منح القروض أو حجبها وحتى قطعها عن دول دون أخرى.
إن خبراء الصندوق كانوا ملزمين تقديم تقريرهم التقييمي الاولي عام 2016 على نحو يعكس حقيقة وواقع الوضع المالي، أي حقيقة ذهاب الامور الى الهاوية في لبنان... فالصندوق هو المرجع الموثوق به لقول الحقيقة، فإن لم يفعل فلا يمكن ملامة الاخرين
ويزعم مديرو الصندوق أنهم لا يفرضون اتفاقات القروض بل يتفاوضون على مضمونها مع البلدان المقترضة. لكن المفاوضات هي في الحقيقة من جانب واحد، فقادة هذه البلدان يتجنبون أي اعتراض خوفا من حجب التمويل والتوبيخ والانتقاد الضمني، لان الأمر سينقلب كارثة، فهو سيعطي اشارة سلبية الى الاسواق والمانحين الآخرين الذين يشترطون الحصول على موافقة الصندوق لتقديم المعونة أو التقروض.
ليست خطط الصندوق على الدوام صائبة، إذ أفضت أحيانا الى مزيد من الديون، وزيادة ثراء بعض النخب، مؤكدة بذلك ان السياسة الرشيدة لا تشترى. وهي عادة نمطية، وهذا ما ثبت من استعمال برنامج اصلاحي لدولة معينة مقاطع كاملة مستعارة من تقرير يتعلق بدولة أخرى أغفل فيها ابدال اسم هذا الاخيرة.
نقص الشفافية
سلطت الأزمة اللبنانية الضوء على موضوع نقص الشفافية لدى الصندوق على الرغم من مطالبته المصارف المركزية بها.
فقد اوردت صحيفة "لو تان" السويسرية في عددها الصادر في 6 تشرين الاول/أكتوبر 2021 مقالا بعنوان "مصرف لبنان فرض رقابة على تقرير لصندوق النقد الدولي توقّع الكارثة الحالية"، وذكرت فيه أن ممثل الصندوق الاسباني الفارو بيريز افتتح في 9 أبريل/نيسان 2016 اجتماعا مقررا مع حاكم مصرف لبنان ومعاونيه بالقول أنتم على حافة الهاوية.
وأضافت الصحيفة أن الحاكم السابق رياض سلامة توصل الى شطب 14 صفحة من التقرير الأولي للصندوق الخاص بتقييم القطاع المالي (FSAP) المؤرخ في أبريل/نيسان 2016، الذي صدر لاحقا في الشهر الاول من عام 2017 بحجة أن النشر يقوض الاستقرار المالي. وتضمنت الصفحات المشطوبة إشارة الى أن هناك عجزا صافيا لدى مصرف لبنان (قيمة موجودات المصرف ناقصة مطالبات المصارف التجارية منه، والذهب) بـ4,7 مليارات دولار، ما يمثل 10 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي وأن المصارف لا تملك السيولة اللازمةلمواجهة اية أزمة، وان هناك تشوهات في التسليفات إذ تبلغ نسبة تلك الممنوحة للقطاع العقاري 43 في المئة من التسليفات الاجمالية وان "فحص الاجهاد المالي" يشير الى أن كل المصارف ستشكو من خطر نقصان السيولة عند حصول أزمة.
وخلصت الصحيفة الى أن المعلومات السابقة لو استبقيت ولم تحذف، لكانت دفعت الجميع الى تغيير السلوك ولجنبت البلاد الازمة التي سقطت فيها.
جاء رد الحاكم سلامة بعد يومين في بيان نفى فيه مزاعم الصحيفة السويسرية، مشيرا الى ان القواعد المعتمدة في اعداد تقارير الصندوق وصياغتها تتضمن مناقشة الأمور بين فريق عمله والاطراف المعنيين في لبنان قبل صياغة التقرير الاولي وارساله الى المسؤولين في الدولة اللبنانية وليس فقط الى مصرف لبنان لوضع ملاحظاتهم التي يمكن ان يؤخذ او لا يؤخذ بها وبعدها يناقش التقرير النهائي ويوافق عليه مجلس ادارة صندوق النقد.
رد الصندوق والخبراء
رد صندوق النقد جاء في 28 أكتوبر/تشرين الأول 2021، وأوجزه أحد مسؤوليه لـ"رويترز" في حينه قائلا إن الصندوق طرح في التقرير تحذيراً مبكراً وحلولاً ممكنة لتقوية النظام المالي، وانه شدّد على ضرورة تقليص الأخطار الاقتصادية والمالية، ومنها الاعتماد على تدفقات الودائع الجديدة لتغطية العجز المالي والخارجي الكبير، كما ذكر أنّ موارد كبيرة مطلوبة لضمان الحفاظ على ملاءة رؤوس أموال المصرف في حال حدوث صدمة حادّة.
وذكر المسؤول في ما خص إعلان صافي الاحتياطات، انه لا يشترط أن تعلن الدول ذلك، غير أنّ دولاً كثيرة تفعل هذا الامر.
— Asharq News الشرق للأخبار (@AsharqNews) March 23, 2023
وردّ السؤال بإمكان قيام الصندوق بدور إستباقي للضغط من أجل نشر رقم العجز في صافي الاحتياطات الى "قواعد الشفافية الخاصة بالصندوق"، التي تنص على أنه يجوز لدولة ما أن تطلب حذف موادّ من تقرير أولي إذا كان نشر هذه المواد يفضي الى انعكاسات سلبية لدى الاسواق، وامتنع عن التعليق عما إذا كان لبنان قد تقدم على وجه التحديد بهذا الطلب، وايضا عما إذا كان هناك حدّ رسمي لحجم صافي الاحتياطات.
الصندوق امتنع عن دق ناقوس الخطر!
في ضوء ما سبق، يمكن التعليق واستنتاج الخلاصات بناء على الوقائع الآتية:
1- ان تقرير الصندوق وضع في اطار برنامج ( Financial System Stability Assessment) ومنطلقه تقديم الصندوق تقييما معمقا للقطاع المالي ومرونته مع "اختبارات ضغط"، وهذا لن يستقيم اذا لم تتوضح كل الامور ذات الصلة، في مقدمها المواءمة الدقيقة والبديهية بين موجودات المصرف المركزي ومطلوباته بالعملات الاجنبية، خصوصا ان البرنامج كان طوعيا ثم اصبح الزاميا حسب منهجية قرار المجلس التنفيذي للصندوق عام 2013.
2- ان الشفافية والمحاسبة هما المقابل للاستقلالية المالية لمصرف لبنان، المنصوص عليها في المادة 13 من قانون النقد والتسليف، وكتابات المتخصصين في استقلالية المصرف، بما فيها "قانون شفافية المصرف المركزي" الصادر في يونيو/حزيران 2020 تؤكد وتدعو الى ذلك. لذا كان مطلوبا من المعنيين في الصندوق الذين عملوا على وضع التقرير التقييمي، لفت مصرف لبنان الى تقصيره في تحقيق موجب الشفافية في عرض وضعه الحقيقي بالعملات الاجنبية، وادراج هذا الامر في تقريرهم ضمن اطار برنامج FSSA، خصوصا ان المادة 75 من قانون النقد والتسليف تتحدث عن حساب خاص يدعى "صندوق تثبيت القطع" ظهر في حسابات وميزانيات مصرف لبنان منذ انشائه وألغاه الحاكم سلامة بعد توليه الحاكمية في التسعينات، ليعيده أخيرا قبل أشهر عدة برصيد يبلغ بضعة مليارات من الدولارات، دامجا فيه نتائجه مع نتائج حساب آخر عائد للخزينة تنص عليه المادة 115 من قانون النقد والتسليف ومخصص لقيد الفروق بين ما يوازي موجودات المصرف من ذهب وعملات اجنبية بالسعر القانوني وبين السعر الفعلي لشراء او بيع هذه الموجودات وغيرها.
ما حصل فعلا هو أن صندوق النقد اعتمد الخيار الاول، وامتنع عن دق ناقوس الخطر في التقرير التقييمي الذي نشره بداية عام 2017، مقدما صورة مخادعة للعموم، لانه لو أتيحت لهم المعلومات الواردة في نسخة التقرير الاولى لعام 2016، لكان في الامكان تدارك الأزمة باكراً، وتخفيف قيمة الخسائر التي تراكمت لاحقاً في ميزانيات مصرف لبنان.
3- ان "قانون شفافية المصرف المركزي" الصادر عن صندوق النقد الدولي يشير الى ضرورة قيام المصرف المركزي بإجراء "توازن مناسب بين الشفافية والحاجة المشروعة للسرية" فيحجب ما يعتبر ضرورة مشروعة لبقائه سريا.
وفي الرجوع الى ورقة بحثية نشرها الدكتور توفيق كسبار في أغسطس/آب 2017 عن الازمة النقدية الآتية على الرغم من التهديدات التي تعرض لها لثنيه عن ذلك، يتبين ان وضع صافي احتياط مصرف لبنان بالعملات الاجنبية كان سلبيا للسنة الثانية، في نهاية 2016، وهو أمر أكدته ايضا الصفحات التي شطبت من التقرير الاولي للصندوق، الذي نشر بعد الشطب في بداية 2017 بحسب رواية "لو تان" السويسرية.
وقد رد مصرف لبنان على تقرير كسبار، فذكر أن ميزانية مصرف لبنان العمومية تتضمن تحت باب احتياط بالعملات الاجنبية أصولا سائلة، واذا اضيفت اليها الاصول الاخرى المتوسطة والطويلة الاجل التي يحوزها "فإن صافي احتياط مصرف لبنان من العملات الاجنبية يسجل رصيدا ايجابيا يؤمن تغطية كافية تضمن استقرار الليرة اللبنانية والاستقرار المالي عموما"، وهذا أمر اثبتت الوقائع عدم صحته عند اندلاع الازمة، اذ تبين على العكس، وجود فجوة ضخمة بلغت حدود الـ 70 مليار دولار عام 2019 بفعل تدني الاصول عن الالتزامات، تشكلت تدريجيا منذ ما قبل العام 2015، مما يحمل على الاعتقاد بأن السرية التي اعتمدها مصرف لبنان في قيوده الحسابية كانت للتمويه على الخسارة وليس بمقتضى حاجة مشروعة لها، خصوصا ان عام 2016 كان عام التسابق للانتخابات الرئاسية، وكان الحاكم من بين الاسماء المتداولة، واعلان اية فجوة في حسابات مصرف لبنان كتلك التي تم اكتشافها سيقضي كليا على فرصته في السباق الرئاسي.
4- ان خبراء الصندوق كانوا ملزمين تقديم تقريرهم التقييمي الاولي عام 2016 على نحو يعكس حقيقة وواقع الوضع المالي، اي حقيقة ذهاب الامور الى الهاوية... فالصندوق هو المرجع الموثوق به لقول الحقيقة، فإن لم يفعل فلا يمكن ملامة الاخرينمن بعده حسب قول تيموثي جايتنر وزير الخزانة الاميركيالأسبق.
في المقابل هناك خطر حصول اعتراض من مصرف لبنان على نشر تقرير يتضمن اخفاقات واضحة تحت حجة الانعكاس السلبي الذي سيولده ذلك على الاستقرار المالي الهش، وعندها سيكون امام الصندوق واحد من خيارين:
الاول، الاخذ باعتراض مصرف لبنان وشطب الامور التي يقترحها الصندوق من التقرير قبل نشره، فنكون هنا امام تقرير غير شفاف وغير معبر عن الحقيقة، قوّضت فيه الصدقية.
الثاني، تمنع الصندوق عن الاذعان لطلبات الحاكم واتخاذه قرار عدم نشر تقرير منقوص لا يحقق الغاية منه، وهذا الامر ستكون له ايضا تداعياته اذ سيتيقن العموم سريعا من حقيقة السبب الكامن وراء عدم النشر.
ما حصل فعلا هو أن صندوق النقد اعتمد الخيار الاول، وامتنع عن دق ناقوس الخطر في التقرير التقييمي الذي نشره بداية عام 2017، مقدما صورة مخادعة للعموم، لانه لو أتيحت لهم المعلومات الواردة في نسخة التقرير الاولى لعام 2016، لكان في الامكان تدارك الأزمة باكراً، وتخفيف قيمة الخسائر التي تراكمت لاحقاً في ميزانيات مصرف لبنان.
المعيب في ما حصل، أن لا تحقيق فتح في لبنان للتحقق مما اذا كان الحاكم حقيقة هو المرجعية الصالحة وحده لرفض ما كان مدرجا في التقرير الاولي، خصوصا أن فجوة الخسارة استغرقت رأس مال مصرف لبنان، وهو امر يحدده القانون، اضافة الى الاموال الخاصة، كما لم يفتح اي تحقيق لدى الصندوق في خصوص ما نسب الى الحاكم ونافذين معنيين في الصندوق من تدخل لتعديل التقرير الاولي وإخفاء التفاصيل التي تنبئ بالكارثة.
جدير بالذكر ان الصندوق يحفظ في سجلاته العديد من التحقيقات الداخلية، منها أخيرا التحقيق باتهام مديرته العامة كريستالينا غورغيفا بالضغط عندما كانت ترأس البنك الدولي لتفضيل الصين في ترتيب تقرير "ممارسة أنشطة الأعمال".
ووصلت الأمور أحيانا الى اطلاق دعاوى قضائية مباشرة ضد الصندوق كما فعل الفرنسي سيرج بيريبي الذي خاصم الصندوق ومديره العام بتهمة التزوير واستخدام المزور، والضغط على الحكومة الفرنسية لالغاء ديونها على الكونغو، مما أفضى الى انتفاء الحاجة لمساعدة الصندوق للأخير، وتاليا الى ضمور فرص استرداد بيريبي لديونه على الكونغو والمقدرة بـ 18 مليون يورو.
وهناك ايضا دعوى أخرى اقامها باحثون مغاربة ضد الصندوق أمام القضاء المغربي، لتحريفه ونشره دراسة أعدوها بعنوان "Ruralstruc"، كما تمت مخاصمة صندوق النقد بسبب تمويله مشروع منجم لم يبصر النور في الكاميرون واختفاء قيمة القرض الممنوح لهذا المشروع في ملاذات ضريبية.
هناك منحى قانوني طارئ يستطيع الللبنانيون والمودعون في المصارف اللبنانية التأسيس عليه لمخاصمة صندوق النقد ومطالبته بالتعويض عن الاضرار التي لحقت بهم من جراء عدم دقه جرس ناقوس الخطر عاليا عام 2017 في تقريره عن التقييم المالي، والتقاعس في الاصرار على مصرف لبنان اعلان حقيقة وضعه المالي بحسب ما تقتضيه أحكام الشفافية وقواعد النشر تحت طائلة التهديد بعدم اعلان تقرير التقييم
هل يخاصم اللبنانيون صندوق النقد الدولي قضائيا؟
قبول المحاكم في واشنطن وخارج الولايات المتحدة المخاصمات السابقة ضد صندوق النقد الدولي ومسؤوليه وموظفيه يعني أن الحصانة من الملاحقة القانونية المنصوص عليها في الفقرة 8 من المادة 9 من اتفاق تأسيس الصندوق في ما يتعلق بالاعمال التي يؤديها الاخيرون بصفتهم الرسمية لم تعد تستقيم أبدا بعد صدور قرار الجمعية العامة للامم المتحدة رقم 66/100 تاريخ 9 ديسمبر/كانون الاول 2011 الذي اقر في المادتين 3 و31 منه بمسؤولية المنظمات الدولية عن الاضرار التي تلحقها بالاخرين من جراء أعمالها غير المشروعة وبضرورة تعويضهم عن هذه الاضرار.
هناك منحى قانوني طارئ يستطيع اللبنانيون والمودعون في المصارف اللبنانية التأسيس عليه لمخاصمة صندوق النقد ومطالبته بالتعويض عن الاضرار التي لحقت بهم من جراء عدم دقه جرس ناقوس الخطر عاليا عام 2017 في تقريره عن التقييم المالي، والتقاعس في الاصرار على مصرف لبنان اعلان حقيقة وضعه المالي بحسب ما تقتضيه أحكام الشفافية وقواعد النشر تحت طائلة التهديد بعدم اعلان تقرير التقييم.