محمد الزواري...المهندس التونسي الذي صنع طائرات "حماس"https://www.majalla.com/node/301731/%D8%A8%D8%B1%D9%88%D9%81%D8%A7%D9%8A%D9%84/%D9%85%D8%AD%D9%85%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%B2%D9%88%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%87%D9%86%D8%AF%D8%B3-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%88%D9%86%D8%B3%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B0%D9%8A-%D8%B5%D9%86%D8%B9-%D8%B7%D8%A7%D8%A6%D8%B1%D8%A7%D8%AA-%D8%AD%D9%85%D8%A7%D8%B3
في أكتوبر/تشرين الأول 1973، كان محمد الزواري طفلا لم يتجاوز الست سنوات وقد انطلق لتوه في المراحل الأولى للتعليم الابتدائي بمتاعب تعود إلى جسد أنهكه مرض الربو الحاد، فتكفلت والدته بحمله على ظهرها يوميا إلى المدرسة ثم انتظاره لإعادته إلى منزلهما المتواضع وسط مدينة صفاقس.
ذلك الطفل، أصبح بعد أربعة عقود مهندسا بارعا قضى نصف حياته مطاردا يحلم بالحصول على شهادة هندسة باسمه الحقيقي في بلده تونس التي عاد إليها بعد عقدين من حل وترحال، لينجح لاحقا في تحقيق نصف حلمه الأكاديمي. حلم أوقفه الرصاص أشهرا قليلة قبل مناقشته رسالة الدكتوراه التي توجت مشروع تخرجه باختراع طائرة من دون طيار مكنته من تحقيق حلمه الكبير بأن يقترن اسمه بقضية فلسطين.
كان بيان لـ"كتائب عز الدين القسام" الجناح العسكري لـ"حماس" الذي صدر بعد يوم من بدء عملية "طوفان الأقصى" كافيا ليتحول محمد الزواري إلى أحد مراكز اهتمام مختلف وسائل الإعلام في تغطية تطورات العملية الجارية؛ إذ أشار البيان إلى أن سلاح "حماس" الجوي شارك بـ35 مسيرة انتحارية من طراز "الزواري" في جميع محاور القتال، وساهم في التمهيد الناري لعبور مقاتليها إلى الأراضي المحتلة.
لم يكن محمد الزواري معروفا في تونس خارج الدوائر الشبابية من التيار الإسلامي التي عايشت "محنة التسعينات". تلك الفترة التي عُرفت بمرحلة "تحرير المبادرة" وشهدت اعتقال مئات الشبان بينما فر آخرون بجوازات سفر مزورة
هكذا اكتشف كثيرون المهندس محمد الزواري، مثلما اكتشفه قبل 9 سنوات تونسيون يوم 15 ديسمبر/كانون الأول 2016 عندما اغتيل أمام منزله في تونس بعد أن أطلق مسلحان النار عليه فأصيب بثماني رصاصات استقرت ثلاث منها في مواضع قاتلة. واتهمت "حماس" في بيان نعيه جهاز الموساد الإسرائيلي باغتياله، مؤكدة أن الزواري كان من قادتها ومن الذين أشرفوا على مشروع طائرات "أبابيل" وطائرات بلا طيار، فضلا عن مشروع غواصة تسيّر عن بُعد.
وكانت وزارة الداخلية التونسية اتهمت آنذاك جهاز استخبارات دولة أجنبية بالوقوف وراء عملية اغتيال الزواري التي شارك فيها، بحسب الرواية الرسمية التونسية، 11 شخصا (3 تونسيين و8 أجانب)، وتم التخطيط لها خارج الحدود التونسية وسُخرت لها أمول طائلة.
من صفاقس إلى السودان
لم يكن محمد الزواري معروفا في تونس خارج الدوائر الشبابية من التيار الإسلامي التي عايشت "محنة التسعينات". تلك الفترة التي عُرفت بمرحلة "تحرير المبادرة" وشهدت اعتقال مئات الشبان بينما فر آخرون بجوازات سفر مزورة. كان محمد الزواري حينها طالبا في كلية الهندسة في مدينة صفاقس (جنوبي تونس) ومثل جل أبناء جيله انخرط في العمل السياسي في رحاب الجامعة التي كانت تمثل أحد أهم مراكز النشاط السياسي والصراع الفكري.
كانت "انتفاضة المساجد" في نهاية الثمانينات أحد الأحداث المُلهمة لشباب التيار الإسلامي في تونس. وهذا ما يفسر تخطيط المجموعة التي كان الزواري منخرطا فيها للهروب من تونس إلى ليبيا والبحث بعدها عن طريق للالتحاق بحركة "حماس" حديثة النشأة
ينحدر الزواري صاحب "الملامح الطفولية" والعينين الخضراوين من عائلة صغيرة ومحافظة؛ فهو الابن الأصغر والمدلل للعائلة والذي ولد سنة 1967 وشق طريقه في التعليم بصعوبة بالنظر إلى مرضه بحسب ما يروي شقيقه الأكبر رضوان لـ"المجلة". ويضيف أن محمد كان يستطيع بالكاد الذهاب إلى المدرسة بمفرده، وأن والدته واظبت على اصطحابه يوميا طيلة سنوات حتى اشتد عوده وزاد تفوقه الباهر في الدراسة تشبثا بها رغم متاعبه الصحية.
ويوصف محمد بالنابغة، وبالشاب الخجول والخدوم، وفق كريم عبد السلام أحد الذين شاركوه المنزل نفسه طيلة أشهر في بدايات رحلة فراره من قوات الأمن عام 1991. وكان عبد السلام مطاردا ومُصنفا كـ"عنصر خطير جدا" من قبل الأجهزة الأمنية التونسية باعتباره "العقل المدبر" لحادثة باب سويقة الشهيرة في الذاكرة التونسية، والتي تم خلالها استهداف مقر تابع للحزب الحاكم آنذاك "التجمع الدستوري الديمقراطي"، وحرقه بمن فيه. وأسفرت تلك العملية عن مقتل شخصين، فيما كان محمد الزواري مصنفا أمنيا بحكم انتمائه لـ"حركة النهضة" الإسلامية، ومشاركته في أعمال العنف التي عمت المدارس والمعاهد والجامعات خلال المواجهات مع النظام الحاكم.
وجمع منزل صغير في منطقة "دائرة الزيت" بصفاقس 15 شابا من محافظات عدة كانوا جميعا ينتمون إلى التيار الإسلامي، لكل منهم قصة وقضية وحلم، وجميعهم متأثر بشخصية الشيخ أحمد ياسين مؤسس حركة "حماس"، والذي كان يواجه آنذاك (1991) حكما بالسجن مدى الحياة. كما كانت "انتفاضة المساجد" في نهاية الثمانينات أحد الأحداث المُلهمة لشباب التيار الإسلامي في تونس. وهذا ما يفسر تخطيط المجموعة التي كان الزواري منخرطا فيها للهروب من تونس إلى ليبيا، والبحث بعدها عن طريق للالتحاق بحركة "حماس" حديثة النشأة.
لم يتقبل محمد تخلي "النهضة" عن "إخوانه". وتتحدث الشهادات القليلة الموثوقة التي قُدمت حول تلك المرحلة عن أن محمد دفع الثمن غاليا جراء مطالبته بالمحاسبة داخل "النهضة" وانتقاده الفساد المالي وعدم التوازن في منح المهاجرين
وبالفعل انطلقت التحضيرات لتحقيق هذا المخطط إلا أن قوات الأمن كانت أسرع وأوقفت جميع أعضاء المجموعة وأودعتهم السجن، ثم تمكن ثلاثة منهم من الفرار، بينهم محمد الزواري، الذي يقول صديقه كريم عبد السلام لـ"المجلة": "محمد باغت الجميع بمن فيهم أصدقاؤه عندما قام بالاعتداء على رجل الأمن والفرار من السجن، ومن ثم التواري مجددا قبل الفرار إلى ليبيا".
استقر الزواري في ليبيا عدة أشهر، ثم توجه إلى السودان مقصد كثير من الإسلاميين آنذاك والذين وجدوا فيها الترحاب، فكانت محطة مفصلية في حياة هذا الشاب، بل وغيرتها رأسا على عقب. وفي السودان باشر الزواري في عملية نقد ذاتي ضمن مجموعة من الشبان من الذي وجدوا أنفسهم ملاحقين أمنيا بسبب انخراطهم في عملية "تحرير المبادرة" التي تبرأت منها "حركة النهضة" لاحقا، فانتهى آلاف الشبان، أعمارهم بين 15 و26 عاما، في السجون، بعد أن صدرت في حقهم أحكام قاسية، وتركوا وراءهم عائلات مضطهدة وموصومة بالإرهاب.
خلافه مع "النهضة"
لم يتقبل محمد تخلي "النهضة" عن "إخوانه". وتتحدث الشهادات القليلة الموثوقة التي قُدمت حول تلك المرحلة عن أن محمد دفع الثمن غاليا جراء مطالبته بالمحاسبة داخل "النهضة" وانتقاده الفساد المالي وعدم التوازن في منح المهاجرين. ويبدو أن رحلة المهجر كشفت للزواري زيف المعركة، التي لم تكن في النهاية قضية أمة بل صراع على السلطة استعمل فيه الشبان كوقود، بحسب تلك الشهادات.
من الصعب جدا معرفة تفاصيل كاملة عن حياة الزواري الذي كان كتوما إلى درجة أن عائلته اكتشفت علاقته بـ"حماس" يوم اغتياله، إذ كان قليل الكلام يكاد صوته لا يُسمع.
انتهت علاقة محمد الزواري بـ"النهضة" والسياسة عموما. وتسبب "فك الارتباط" هذا بمعاقبة كل عارفي محمد الذي كانت له شخصية وقورة ولها وقع في النفوس والرؤوس. وبدوره تعرض محمد للتنكيل والعنف وعاش في "أزقة" السودان حيث عرف الفقر المدقع ما دفعه للعمل في ورش بعيدا عن المستقبل الذي كان ينتظره بحكم نبوغه وتميزه الدراسي، لاسيما أنه كان قاب قوسين من التخرج كمهندس ميكانيك.
يقول من عايشوا تلك المرحلة ويُلقبون أنفسهم بـ"ضحايا فترة المواجهة" إن "محمد الزواري قطع مع السياسة ليس لأنه عايش المظلومية ورفض سياسات التعامل على قاعدة المحسوبية والحسابات الشخصية والمالية، بل لأنه يحمل في قلبه قضية ولا يقبل أنصاف المواقف". وكانت نظراته الثاقبة والواثقة تظهر آثار سنوات الترحال التي كان يتنقل خلالها كل مرة بأسماء حركية مختلفة. فصحيح أنه تفوق وحظي بمجد علمي بيد أنه لم ينل شهادة تحمل اسمه الحقيقي. أما اسمه الحركي الأشهر بحسب عبد السلام فكان "مراد التونسي".
ومن الصعب جدا معرفة تفاصيل كاملة عن حياة الزواري الذي كان كتوما إلى درجة أن عائلته اكتشفت علاقته بـ"حماس" يوم اغتياله، إذ كان قليل الكلام يكاد صوته لا يُسمع. وقد تسبب له طبعه الهادئ بالأذى وأحيانا تردد معارفه الجدد في منحه ثقتهم، لكن أصدقاءه كانوا يصفونه بـ"النقي البعيد من الشوائب".
بحسب رواية "كتائب القسام"، تم تجنيد محمد الزواري عام 2006 بعد الوقوف على قدراته الهائلة في الهندسة الميكانيكية وعلوم الكمبيوتر والصناعة الحربية التي اكتسبها خلال إقامته في السودان
خلال فترة إقامته بالسودان، انتقل الزواري إلى البوسنة والهرسك نصرة لمسلميها خلال الحرب (1992-1995)، ومكث هناك أشهرا عدة، عاد بعدها إلى السودان حيث بقي حتى عام 1996 ليستحصل على الجنسية السودانية وينطلق من المساجد في تشبيك علاقاته مع حركات إسلامية من جنسيات مختلفة بما فيها الفلسطينية؛ ومن هناك بدأت قصته مع "حماس".
عيش في الظل
ما إن مرت التسعينات وحلت الألفية الثالثة حتى بدأ محمد يتنقل بين عواصم عدة بجواز سفر يحمل اسم مُراد. وقتذاك فرض عليه نشاطه الجديد ضمن الجناح العسكري لـ"حماس" تأصيل الكتمان في ذاته، ولذلك لم يكن من السهل تقييم شخصيته التي كان يكتنفها الغموض طيلة تجربته "السرية" كمهندس بطاقات استثنائية راكم خبرات واختبارات قد يكون أبرزها العمل في "التصنيع الحربي في السودان"، بحسب أحد معارفه.
وبحسب رواية "كتائب القسام"، تم تجنيد محمد الزواري عام 2006 بعد الوقوف على قدراته الهائلة في الهندسة الميكانيكية وعلوم الكمبيوتر والصناعة الحربية التي اكتسبها خلال إقامته في السودان. والتحق الزواري بوحدة التصنيع في "كتائب القسام" وفُتح له المجال لمزيد من تطوير مهاراته في دورات تدريبية مكثفة في سوريا، وبخاصة في إيران، استمرت نحو نصف عام، ليكمل بعدها اختباراته مع فريق "القسام"؛ فمن إيران انتقل الزواري إلى غزة حيث شارك في تطوير صناعة الطائرات من دون طيار وأطلق عليها اسم "أبابيل-1"، وهي استعملت للمرة الأولى عام 2014 في معركة "العصف المأكول"، بينما كان آخر مشروع له غواصة مُسيرة عن بُعد مثل محور أطروحته للدكتوراه، إلا أن اغتياله حال دون إتمامها، فيما نوقشت أطروحته كتكريم له بعد أشهر من اغتياله.
عاش محمد الزواري في الظل تماما مثلما أراد بعد نكسات سنوات الشباب الأولى. لم تكن العودة إلى تونس سهلة بالنسبة إليه، إذ ظل ملاحقا بشكل أو بآخر، بحسب روايات الأصدقاء
وكان الزواري قد عاد إلى تونس بعد سقوط حكم الرئيس زيد العابدين بن علي، ليكمل مسيرته الدراسية في الجامعة التي تفوق فيها. وبالفعل حاز الزواري سريعا على شهادة الهندسة وأسس في الغضون "نادي طيران الجنوب" الذي فُتحت أبوابه للموهوبين من شبان الجهة الجنوبية والذين لم يكن أي منهم يعلم أن الزواري ركن أساسي في "حماس". والزواري لم يكن ممن يتباهون بتفوقهم أو يبحثون عن اعتراف بهم، بحسب مقربين منه.
عاش محمد الزواري في الظل تماما مثلما أراد بعد نكسات سنوات الشباب الأولى. لم تكن العودة إلى تونس سهلة بالنسبة إليه، إذ ظل ملاحقا بشكل أو بآخر، بحسب روايات الأصدقاء، ومنهم من روى لـ"المجلة" أن الزواري كان يعتزم الاستقرار في ماليزيا وأنه كان يشكو قبل عام من اغتياله من مطاردات وعمليات رصد من قبل "وحدات البحث" في صفاقس، كما تعرض لمضايقات إدارية كانت تضطره إلى الخروج من تونس كل ستة أشهر لتجديد إقامة زوجته السورية، والتي تزوجت بعد اغتياله من تونسي للاستحصال على الجنسية، ولكن ذلك لم يتحقق بالرغم من الوعود من أعلى المستويات، بحسب معارفه.
حُرمت زوجة محمد من الجنسية وكاد هو أن يحرم من شهادة الهندسة التي مثلت تحديا صعبا للسلطة الحاكمة آنذاك والمكونة من حزب "نداء تونس"، و"النهضة". وكانت الحكومة التونسية قد التزمت الصمت حيال عملية اغتياله، ولم يصدر عنها أي موقف إلا بعد أيام عدة وبعد ضغط شعبي وموجة انتقادات لاذعة فرضت على رئيسها يوسف الشاهد التأكيد على أن "تونس لن تسلم في حق الشهيد محمد الزواري".
وبعد مرور أعوام على اغتيال محمد الزواري يقول شقيقه محمد لـ"المجلة": "إن جهات سياسية نافذة تواطأت في الجريمة وسهلت للمجرمين ولعملاء الموساد إتمامها من دون عناء وأمام منزله". وأكد أن هيئة الدفاع عن شقيقه تعمل على الملف، وأنها استحصلت على معطيات تفيد بأنه كان ضمن قائمة شخصيات رتب الموساد لاغتيالها، وأنه تصدر هذه القائمة بقرار من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو فور نجاحه في مشروع "الغواصة المسيرة عن بُعد".