منذ أن دُعيت الشاعرة الأميركية أماندا كورمان إلى حفلة تنصيب الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن وألقت قصيدة عصماء في مديحه أين منها قصائد شعراء المناسبات والبلاطات، قصيدة عصماء، قوبلت بالتصفيق والتهليل، بعنوان "القمّة التي نتسلّقها" (إشارة إلى قمة الكابيتول حيث غزت جماعة ترامب مجلس النواب الأميركي). هذه القصيدة البسيطة الخطابية الواضحة، من دون رمزيّة أو تعقيد أو غموض، كأنّما استرجاع لشِعر المناسبات في حدوده الدنيا.. قصيدة العودة إلى القرن التاسع عشر، بلا تجديد، ولا تميّز. منذ تلك اللحظة شعرنا أنّ هذه القصيدة التي خرجت عن كل ما حقّقه الشِّعر الأميركي الحديث من إنجازات، كأنّما عودة إلى البلاغة، المباشرة الضيّقة.
لكن، اكتشفنا بعد ذلك، أنّ هناك موجة من هذا الشِّعر، عند الجيل الأميركي وغير الأميركي الجديد الذي تجد أنه تمرّد على كلّ ما كان قد حقّقته الحداثة الشِّعرية في العالم، من اتجاهات رومانطيقيّة أو رمزيّة، أو سورياليّة، ودادائيّة. نوع شعريّ "جديد"، يطلع من الحياة اليوميّة، بلغة مبسّطة، وبمستويات مباشرة.
اكتشفنا حركة تنفصل عن كلّ ذلك الإرث، مع شعراء وشاعرات يتشابهون في كتاباتهم، ويحقّقون مبيعات وازنة في كتبهم. فالشاعرة الأميركيّة سيسيل كولون طبعت 14 ألف نسخة، وهي معروفة أصلا كروائيّة. تقول في إحدى المقابلات "لا أقارن بالشاعر الفرنسي جاك بريفير (الأكثر مبيعا في بلاده)، لكن أقترح شعرا جدّ بسيط"، مستشهدة بإعجاب الجمهور بكتابها ذي العنوان: "أقدّم لكم بطاطس مقليّة" وهي قصيدة تروي لقاء في أحد مطاعم الكباب. وقالت: وجدها الناس جذابة خصوصا لأنّها مفهومة.
وهذا النجاح جعل دار "كاستور استرال" تُعيد نشر الكتاب في سلسلة "الجيب". ونال جائزة الشاعر الفرنسي غيوم أبولينير، تزامنا حقق كتاب الشاعر الشاب طوماس فيتو "قلب البربري النقي" "بيست سيلرز" آخر لأنّه كما قال صاحبه "يرضي الجمهور الجديد" فقصائده تتمحور حول تفاصيل الحياة اليوميّة تتوجه إلى كلّ الناس حتى إلى الذين لا يقرأون عادة الشِّعر. شِعر جيل شبابي أقل من الثلاثين من أعمارهم وخصوصا الجمهور النسوي حقيقة. وقد لقيت ترحيبا كبيرا أوّل مجموعة لكاترينا أبوسفولو بولو باللغتين الإنكليزيّة واليونانيّة وهذا بعنوان "سيزيف سعيدا". لكن قد يكون طبيعيّا عودة بعض الشّعراء إلى الواقع السهل، الواضح، لكن الأهم في هذه الظاهرة أنّهم ينشرون شِعرهم (قبل النشر أو بعده) في "أرضه الطبيعيّة" أي الإنترنت، كما تقول الشاعرة سيسيل كولون "منذ 2008 "كنت أقول إن الشعر كاسد في فرنسا، ولم يعد يهمّ أحدٌ يقرأه، فإذا كان الناس راغبين بالقراءة فعليهم التوجه إلى فيسبوك".
فقد الشِّعر خصوصيّته، وأسراره وهُوياته، حين يُزرع في أمكنة غريبة عنه، لا تميّز فيها بين الخبر والقصيدة والطّرفة، وبين الرسائل اليوميّة والشِّعر
في البداية كان الانفجار الذي أحدثته الهنديّة الكنديّة روبي كور، جعلها رائدة "اتجاه الأقلام الشباييّة" على إنستغرام حيث ينشرون قصائدهم. تقول: "هذا فَتَحَ أفقا مجنونا" أكثر من ذلك لقد حصدت سيسيل كولون برسومها وقصائدها المنمنمة ملايين من الاشتراكات منشورة أولا في طبعتها الأولى. إنّه الجيل الذي ينشر أوّلا أعماله في كتاب ثمّ يحيله إلى الشبكة، أو العكس.
لكن استخدام الشبكات الاجتماعية يتواءم معه، باعتباره يقترح مضمونا سهلا على الناس. وهذا يسمح له (كما يقول بعضهم) أن يمضي نحو الشّعر عموما، أي الخروج من دائرة الغموض والنخبوية من دون أن يكون في حاجة إلى أن يكون متخصصا بمالرمه أو بشكسبير، أو ببودلير، أو بفاليري، أو رامبو. وهذا يؤمّن له الانتشار السريع. ويقول بعضهم "لم يعد الشّعر موجودا في دواوين القصائد فقط؛ فيجب البحث عنه في الروايات، والموسيقى، والحكايات.. هناك شِعر جديد يعبّر عن نفسه كما يخرج الصوت من الحنجرة. قويّا، عاصفا"، كما تقول صوفي دوسيفري مديرة سلسلة فرنسية جديدة تطبع من 12 إلى 20 ألف نسخة من دواوين الشعراء.
ليس المهمّ في كل ذلك ما يكتب هؤلاء من شِعر، وما ينظرون له: البساطة، والسهولة والشِّعر للجميع، هذه الشعارات وردت قبلهم من عشرات السنين، ونذكر أن الشِّعر الفرنسي في القرن التاسع عشر، لم يكن غامضا ولا مجنونا، مع لامرتين، أو دوبليه وفيكتور هيغو، ومثله الشِّعر الأموي والعباسي عندنا: كان الشعراء يستعينون بالرواة، وحتى في الجاهليّة الأمر ذاته، لكن الجديد أن هذا الشِّعر يُكتب ليُنشر، في الشبكات الاجتماعية، أي الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي.
بات الكتاب ممرّا لهذه الوسائط، أو باتت هذه الوسائط ممرّا للكتاب، حيث فقد الشِّعر خصوصيّته، وأسراره وهُوياته، حين يُزرع في أمكنة غريبة عنه، لا تميّز فيها بين الخبر والقصيدة والطّرفة، وبين الرسائل اليوميّة والشِّعر، بمعنى أن الشِّعر فَقَدَ خصوصيّة ماهيّته في غياب الكتاب، حتى لو نُشرت القصائد في الأطر الرقميّة، أو رُميت في تلك الوسائل، يبقى شِعرا شفويّا، فَقَدَ قدرته على الغوص في عمق الشاعر، كأنّ هناك محاولات لإيصال الشِّعر إلى ما بعده، وخيانة جوهره في القراءة المتأنّية والمتأمّلة. ليس المهم ما يعتبر هؤلاء الشبّان في الولايات المتحدة أو كندا أو باريس، بل المهمّ أن يتحوّل ما يكتبونه أو يقولونه، مجرّد نثر صحافي لا قيمة له، خصوصا عندما يقول بعضهم، لا نريد شعرا غير مفهوم، ولا شعراء غامضين كمالرمه، وشكسبير، وفاليري، والشعراء التجريبيين في الولايات المتحدة.. لكن الأهم أن هؤلاء يدفنون مئات السنوات من إرث الشِّعر، وحداثته، ومدارسه، وأساليبه. أي يفقد الشِّعر جذوره الضاربة في التاريخ، من ملاحم وقصائد رثائيّة تغوص في أعماق الشروط النفسية، إنه شِعر يطلع من الفراغ، ويُرمى في إنستغرام وفيسبوك، أي في فراغ آخر. لم يعد هناك فارق بين القصيدة والشِّعر، بين النثر والشِّعر؛ لم يعد الشِّعر "صناعة" وطُرقا مختلفة في التعبير. لم يعد هناك تنوّع في التجارب لغويّة كانت أم فلسفيّة، أم داخليّة. كأنّما يُكتب على زجاج: وما وسائل الاتصال سوى شاشات متشابهة تفرض تجارب متسارعة ومتشابهة، وإذا قال بعض هؤلاء الشُّعراء الشبّان إنّ الإنترنت هو أرض الشِّعر، فيعني أنّ لا أرضَ له.
لكن ما هو أدهى من ذلك، ونلمسه في بلادنا العربيّة، أنّ بعض الشُّعراء باتوا يرتجلون "شعرا" طازجا مباشرا (كأنّه يوميّات أو مجرّد كلام)، ويرسلونه مباشرة عبر الإنترنت، ليردّ آخرون عليه بارتجال "نصّ" شعريّ مشابه في هشاشته حتى النثريّة الروائية، ناهيك عن الأخطاء اللغويّة. لم يعد الشاعر يكتب نصّه بل يخضع لإملاءات الآلة الجهنّميّة يخضع لمتطلّباتها الاستيعابيّة وهشاشتها الكتابيّة ونسيانها: الشاشة تحفظ هذا النوع للنسيان، بمتطلباتها الآنيّة وتسارع وتائرها.
ما هو أدهى من ذلك، ونلمسه في بلادنا العربيّة، أنّ بعض الشُّعراء باتوا يرتجلون "شعرا" طازجا مباشرا (كأنّه يوميّات أو مجرّد كلام)، ويرسلونه مباشرة عبر الإنترنت، ليردّ آخرون عليه بارتجال "نصّ" شعريّ مشابه في هشاشته
في الثامنة عشرة والحادي والعشرين من يونيو/ حزيران كل عام، يقام سوق للشِّعر في شارع - سانت سولبيس في باريس. وهناك يمكن اعتبار أن الإنترنت هو الأساس حيث تكثر المواقع. والنادي الأشهر هو "نادي الشعراء"، يديره وينسّقه الشاعر بلينر روسني: موقعه يقارب أكثر من 14.500 دخول شهريا. إنه منفتح على الشِّعر أثناء كتابته، ومكبّ على المنحى الشعبي فيه.
لكن انطلاق معظم هؤلاء من ثقافة الإنترنت والتواصل الاجتماعي، يؤدّي حتما إلى الجهل والأمّية، وتجاوز القواعد اللغويّة، فتجد ما يتراكم منها في نصوصهم، لا سيبويه ولا رستويه.. ولا سواهما من كبار اللغويّين العرب.. بل إنهم ينطلقون من عناوين ستصبح دعائيةّ مع الوقت بحسب الإيقاع التكنولوجي، وعدم اطلاع معظمهم على التراث بشِعره ونثره وفكره وتاريخه، لا يمكن إلا أن يؤدّي إلى الفراغ، وذلك يدلّ عموما على تجاوز الكتاب كمكان تاريخي للإبداعات (والاكتفاء بثقافة الشاشات). فهؤلاء يكتبون بمعارفَ مؤقّتة وناقصة وسطحيّة، وجزئيّة. ممّا يعني ضعف ثقافتهم الشِّعريّة والروائيّة والفنيّة واللغويّة.
إنّه فضاء استسهال الشِّعر، وروابطه وامتداداته، يكتبونه كما يكتبون تحت إلحاح المباشرة، وأحيانا يرتجلون كلاما عاديّا لا تجارب فيه. بل كأنّه رسائل برقيّة عارية من كلّ جماليّة، أو معنى. فليس المهمّ أن تكتب شِعرا مفهوما، بل المهمّ أن يكون هذا المفهوم شِعرا.