تشي طبيعة العلاقة الملتبسة بين إسرائيل والأميركيين بتعقيد حاد. خلال الحرب كان الأميركيون يبحثون عن آلية للضبط وإنهاء النزاع ومنع توسعه حفاظا على شبكة التوازنات الحساسة في الصراع مع الاتحاد السوفياتي، وكذلك العلاقة مع الدول العربية المصدرة للنفط. وكانت الرؤية الإسرائيلية تعتبر أن الأميركيين لم يبذلوا الجهد الكافي للدفاع عن إسرائيل في مواجهة ما كانت تسميه الحلف غير الأخلاقي بين الروس والعرب الذي سمح لمصر وسوريا بشن ذلك الهجوم الصاعق والذي كان يستوجب تدخلا أميركيا حازما وحاسما لم يحصل لصالح اسرائيل. كيسنجر أفرج بعد ضغط شديد عن عدد من الطائرات المقاتلة التي وصلت بالتوازي مع فتح المسار الديبلوماسي والمطالبة بإنهاء الحرب والركون الى التفاوض.
الأميركيون يريدون أن تحقّق اسرائيل انتصارا ولكن بأنف نازف كما تؤكّد غولدا، بمعنى أن يكونوا منهكين وملحقين بسياستها ومدينين لها على الدوام. يشدد كيسنجر خلال اللقاء على التزام أميركا حماية إسرائيل لتردّ ساخرة متسائلة إذا كانت تلك الحماية على غرار ما حدث في العام 1948 حين منحهم ستالين السلاح.
الإشارة المفاجئة في هذا الحوار تقول إن الإسرائيليين يؤمنون بأن لا فضل للأميركيين في إنشاء دولتهم بل إنها إنجاز خالص لهم، وإذا كانوا رعوها في مراحل لاحقة فلأن ذلك جاء استجابة لمصالحهم. "بقاؤنا لا يعتمد على هداياك وإذا كان يجب أن نقاتل فسنقاتل وحدنا"، تقول غولدا هذه العبارة لكيسنجر، راسمة ملامح عقيدة إسرائيلية ثابتة.
ليس هناك من دَين أميركي على الإسرائيليين، لا في لحظة نشوء دولتهم ولا في استمرارها على قيد الحياة. يضيء هذا العنوان على العلاقة الأميركية الإسرائيلية في تلك المرحلة، لكنه يوجه كذلك رسائل تخاطب واقع العلاقات القائمة بينهما الآن، إذ إنه كان لافتا تكرار المنطق نفسه في ما يخص الموقف الأميركي من إيران التي ترى فيها إسرائيل تهديدا وجوديا وتهدد بشن حرب ضدها وحدها من دون موافقة الإدارة الأميركية.
السلام إسرائيليا
مسار السلام كما يظهره الفيلم يبدو شأنا داخليا إسرائيليا بالكامل صنعه التفوق العسكري والاستعداد لذبح ثلاثين ألف جندي مصري محاصر وخلق جيش من اليتامى والأرامل وكذلك الإصرار على مواجهة الجميع من حلفاء وأعداء، لذا فإنه انطلاقا من هذا التعريف لا يحتاج فعليا إلى شركاء.
غاب الحضور العربي في الفيلم ولم نر ماذا كان يحدث في المقلب الآخر وكذلك لا نعثر على إشارة إلى الفلسطينيين. مفهوم السلام وفق المنطق الإسرائيلي يراكم نفيين هما نفي الوجود الفلسطيني ونفي الدور العربي في بناء مفهوم السلام. الفلسطينيون لا يشكلون حالة تستدعي النقاش أو التفاوض، والسلام لا يحتاج إليهم أصلا، فهم ليسوا مؤثرين ولا فاعلين فيه، ليسوا طرفا في الأساس، والعرب لا يصنعون السلام بل ينخرطون فيه، وينفذون شروطه.
يحاول الفيلم الإيحاء بأن السلام لطالما كان مشروع إسرائيل الأساسي ويعمد إلى إبراز التناقض في المبادئ والقيم مع العرب كسياق يدعم هذه الحجج ويعطيها تماسكا. يتعلق العنوان الأبرز بالاختلاف في النظر إلى قيمة حياة الجنود والمواطنين، فبينما ينظر الإسرائيليون إلى حياة جنودهم ومواطنيهم بشكل تقديسي، تكثر الإشارات الدالة على أن القادة العرب يستخفون بأرواح جنودهم ومواطنيهم. فالشرط الأول والأساسي الذي وضعته مائير للتفاوض كان إطلاق سراح الأسرى وتسليم الجثث قبل كل شيء، وحين سألها كيسنجر عما إذا كانت تعتقد أن الطرف العربي لن يطالب بالمثل ردّت ساخرة مؤكدة أن العرب لا يبالون بأرواح جنودهم، وكأن ذلك ليس رأيا بل حقيقة.
خلال مثولها أمام لجنة التحقيق، "أغرانوت"، التي تشكلت بعد الحرب بغية الكشف عن القصور الأمني والاستخباراتي، بدت مائير حريصة على توثيق أعداد القتلى والجرحى الإسرائيليين بشكل شخصي. تتكرر الإشارات حول عدم وضع القيادات العربية أرواح الجنود ومصير الأسرى واستعادة الجثامين في قائمة الأولويات.
يتعمّم التفوق الأخلاقي الحاسم في النظر إلى قيمة حياة الجندي ويتوسّع ليصبح عقيدة السلام، بينما العرب وفق نظام قيمهم الذي يبخس الحياة البشرية عموما ليسوا صناع سلام، ولكن إسرائيل بتفوقها الكامل في الميادين العسكرية والأخلاقية نجحت في أن تفرضه عليهم، وبذلك تكون فكرة السلام تظهيرا لانتصارها.
تحاول إسرائيل نقل هذا المنطق الى سياقات التفاوض الحالية، حيث تشترط السعودية العمل على إيجاد حل للأزمة الفلسطينية من ضمن مجموعة عناوين عريضة تطرحها للدخول في التفاوض مع إسرائيل حول السلام، ولكن إسرائيل لا تعتقد أن الشأن الفلسطيني قائم فعلا بل تراه جزءا من سياق داخلي إسرائيلي خاص.
وفي ترميز أقصى لمفهوم السلام في نظر إسرائيل، يطالعنا مشهد غولدا مائير وهي تقفل سماعة الهاتف في وجه وزير الخارجية الأميركي الذي كان يحذّرها من أن سلوكها التصعيدي سيستجر تدخلا سوفياتيا مباشرا وتوترا دوليا لا تريد أميركا الخوض فيه في ظل فضيحة التجسّس التي كانت تعصف بعهد الرئيس ريتشارد نيكسون وإدارته.
تعرض مطالبها وتقفل السماعة بحسم. تفعل إسرائيل ذلك مع حليفها الأبرز والداعم الأكبر لها وضامن استمرارها في مشهد يختصر نظرة إسرائيل إلى التفاوض والسلام التي أثبتت مآلات الأمور والسياقات الجارية أنها لم تتغير وتتطور بل تصلبت وتجمدت كما هي حال العصافير الميتة المنقبلة على ظهرها في ممشى طويل في مشهد الفيلم الختامي المشحون بصوت ليونارد كوهين يغني "من بالنار" who by fire.