"غولدا": خطاب إسرائيلي عن حرب أكتوبر يستهدف الحاضر

ركاكة سينمائية تجسّد عقيدة سياسية حول السلام

Golda (2023)
Golda (2023)

"غولدا": خطاب إسرائيلي عن حرب أكتوبر يستهدف الحاضر

يؤكّد الإفراج الإسرائيلي الجزئي عن وثائق حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 بعد مرور 50 عاما على أحداثها، أن تلك اللحظة لا تزال تحمل الكثير من المحظورات الأمنية والسياسية التي تصعّب بناء قصة إسرائيلية متماسكة والدفاع عنها أمام العالم في حال الكشف عن كامل تفاصيلها. فالحذر الإسرائيلي من خطورة الأرشيف وقراءته الجدّية سمة تطبع كل أشكال التعامل مع الذاكرة فقد سبق التعامل مع أرشيف الـ 1948 بالمنطق نفسه.

وإذا كانت الوثائق تقدّم رواية مباشرة لا تخضع للتأويلات بل تطلق الحقائق العارية وتضعها في التداول، فإن التناول الثقافي الفني للحدث يمكنه فتح أبواب الترميز وإطلاق الرسائل.

في هذا الإطار وبالتزامن مع ذكرى حرب أكتوبر/ تشرين الأول خرج إلى النور فيلم "غولدا" راويا سيرة رئيسة الوزراء الإسرائيلية غولدا مائير وقيادتها حرب أكتوبر التي يطلق عليها الإسرائيليون تسمية حرب يوم الغفران. يكثّف الفيلم كل سيرتها في هذه اللحظة، مستعينا بالنجمة الأوسكارية هيلين ميرين لتجسيد دورها تحت إدارة المخرج جاي ناتيف الحائز جائزة أوسكار الفيلم القصير عن فيلم "جلد"، ويؤدّي الممثل الأميركي ليف شرايبر دور وزير الخارجية الأميركي الأشهر هنري كيسنجر.

أدّى الحرص على تقديم شخصية غولدا بواقعية شديدة دورا معاكسا فقد بدت مصطنعة بالكامل وأقرب إلى مخلوق آلي يتخذ قراراته وفق نظام برمجة يجعلها أسيرة نسق حركي وتعبيري وخطابي جامد وثابت وغير إنساني

كل تلك العناصر اجتمعت لتمنح الفيلم مشروعية فنية عالية. ولكن، وقبل الدخول في رصد كيفية تعبيره عن التمثّلات الإسرائيلية لحرب أكتوبر، لا بد من الإشارة إلى أن المستوى الفني للفيلم عموما جاء ضعيفا ومهلهلا بشكل ملحوظ، وكان أداء هيلين ميرين ركيكا ولا يقترب من قوة الأداء الذي قدّمته في تجسيدها لشخصية الملكة إليزابيت الذي نالت عنه الأوسكار ولا من أدائها المميز الذي يعرفه عشاق السينما في أفلام كثيرة صارت من كلاسيكيات الفن السابع.

خرج الفيلم إلى النور بالتزامن مع الإفراج عن جزء من وثائق حرب أكتوبر والخلافات الملحوظة بين إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية حول الكثير من الملفات وعلى طريقة إدارة الأزمات والتفاوض، مما يعني أن المستوى الفني ليس في قائمة همومه بل مدى التعبير عن الرؤية الإسرائيلية لتاريخ العلاقات وحاضرها، بينها وبين العرب والعالم انطلاقا من تأويل حرب أكتوبر.

أدّى الحرص على تقديم شخصية غولدا بواقعية شديدة دورا معاكسا فقد بدت مصطنعة بالكامل وأقرب إلى مخلوق آلي يتخذ قراراته وفق نظام برمجة يجعلها أسيرة نسق حركي وتعبيري وخطابي جامد وثابت وغير إنساني، ويحولها إلى كائن يعيش في عالم الاجتماعات والتخطيط واتخاذ القرارات في إطار مغلف برومانسية مشهدية المدخّنة الشرهة التي لا تكف عن التدخين حتى داخل المستشفى.

تكرار المشهدية نفسها حوّل الفيلم إلى خلطة مربكة فنيا ودلاليا فشلت في إقناع مواقع التقييم المعروفة بمديحها، فقد نال تقييمات سيئة، ومنحه الناقد السينمائي ريكس ريد نجمتين معتبرا أن الفيلم عجز عن  بناء ملامح شخصية درامية، ولكن لا يبدو أن الجانب الفني يقع في صلب اهتمام صنّاعه بقدر تحميله بأكبر قدر ممكن من الرسائل والعناوين التي تخاطب إسرائيل من خلالها حاضرا تؤمن أنه ليس سوى نتيجة لما كرسته حرب أكتوبر كما تنظر إليها وتقرأها.

 

الثقة المفرطة

تسبّبت الانتكاسات العسكرية في أول أيام الحرب في صدمة كبيرة لوزير الدفاع الإسرائيلي أوصلته إلى اليأس وجعلت غولدا مائير تفكر في إناطة أمر قتلها إلى شخصية مقرّبة منها في حال وصول العرب إلى تل أبيب لعدم السماح لهم بالقبض عليها حية، وهذا لم يكن وفق خطاب الفيلم، دليلا على الضعف بل انعكاسا للثقة المفرطة في القوة التي تزعزعزت لوهلة قبل أن تتحول إلى نصر مع عملية شارون التي قادت إلى حصار الجيش المصري الثالث وأنتجت مسار الاعتراف بدولة إسرائيل ومخاطبة غولدا مائير بصفتها رئيسة وزراء.

Golda (2023)

تحقّق النصر الإسرائيلي، وفق رواية الفيلم، على الرغم من الأخطاء الكارثية الجسيمة في الاستخبارات والتجسّس وسوء تقدير المعلومات التي أتت من أكثر من مصدر، مؤكدة أن الحرب وشيكة الحدوث. تبين أن نظام التجسّس الإسرائيلي لم يعمل أساسا ولم يلتقط الإشارات المباشرة التي تعلن انطلاق الحرب مما جعلها مفاجأة خالصة ومدمرة. ولكن على الرغم من ذلك نجح الإسرائيليون في تجاوز الصدمة والانتقال إلى الهجوم وفتح ثغرة سمحت بحصار أكثر من ثلاثين ألف جندي مصري بشكل كامل.

فكرة الثقة المفرطة بالنفس هي نوع من الإيمان، لم ينجح الهجوم المفاجئ والخسائر الكبيرة وغير المسبوقة التي منيت بها إسرائيل سوى في زعزعته لفترة وجيزة قبل أن تعود إلى الظهور بشكل متماسك جاعلة غولدا بتمثيلها الشخصية الإسرائيلية صاحبة القرار في ما يخص الطريقة التي ستنتهي بها الحرب، والقادرة على انتزاع مكاسب كان ينظر إليها على أنها مستحيلة قبل ذلك.

بناء على ذلك، جاء الانتقال السلس من توصيف العرب عموما والقيادة المصرية خصوصا للوجود الإسرائيلي على أرض فلسطين بأنه "الكيان الصهيوني" إلى "دولة إسرائيل"،  وكانت مخاطبة الرئيس المصري الراحل أنور السادات لغولدا بوصفها رئيسة حكومتها أبرز معالم انتصارها.

 

هنري كيسنجر يتعلم القراءة

يقدّم وزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر نفسه خلال لقائه غولدا مائير خلال حرب أكتوبر ضمن تراتبية يضع فيها أميركيته أولا ومنصبه كوزير خارجية ثانيا ويهوديته ثالثا، فتردّ عليه غولدا مائير بأنهم في إسرائيل يقرؤون من اليمين إلى اليسار في إشارة واضحة إلى ضرورة وضع اليهودية في الصدارة.

تلك اليهودية هي نظام ولاء مجبول بالعاطفة المسيّسة وبتأويلات للخصوصية اليهودية تجعلها تجربة لا يمكن أن يشعر بها سوى من يعتنقها. كان كيسنجر مطالبا بخلع كل صفاته ووظائفه ودوره وإبقائها كعنوان وحيد للعمل في تلك اللحظة، في رسالة تحمل طابع سوء التفاهم التاريخي مع الإدارة الأميركية، الذي لا يمكن أن يحلّ إلا حين يكون التعامل مع إسرائيل متشكّلا انطلاقا من اليهودية وفق تعريفات السلطات الإسرائيلية.

الإشارة المفاجئة في هذا الحوار تقول إن الإسرائيليين يؤمنون أن لا فضل للأميركيين في إنشاء دولتهم بل إنها إنجاز خالص لهم وإذا كانوا رعوها في مراحل لاحقة فلأن ذلك جاء استجابة لمصالحهم

تشي طبيعة العلاقة الملتبسة بين إسرائيل والأميركيين بتعقيد حاد. خلال الحرب كان الأميركيون يبحثون عن آلية للضبط وإنهاء النزاع ومنع توسعه حفاظا على شبكة التوازنات الحساسة في الصراع مع الاتحاد السوفياتي، وكذلك العلاقة مع الدول العربية المصدرة للنفط. وكانت الرؤية الإسرائيلية تعتبر أن الأميركيين لم يبذلوا الجهد الكافي للدفاع عن إسرائيل في مواجهة ما كانت تسميه الحلف غير الأخلاقي بين الروس والعرب الذي سمح لمصر وسوريا بشن ذلك الهجوم الصاعق والذي كان يستوجب تدخلا أميركيا حازما وحاسما لم يحصل لصالح اسرائيل. كيسنجر أفرج بعد ضغط شديد عن عدد من الطائرات المقاتلة التي وصلت بالتوازي مع فتح المسار الديبلوماسي والمطالبة بإنهاء الحرب والركون الى التفاوض.

الأميركيون يريدون أن تحقّق اسرائيل انتصارا ولكن بأنف نازف كما تؤكّد غولدا، بمعنى أن يكونوا منهكين وملحقين بسياستها ومدينين لها على الدوام. يشدد كيسنجر خلال اللقاء على التزام أميركا حماية إسرائيل لتردّ ساخرة متسائلة إذا كانت تلك الحماية على غرار ما حدث في العام 1948 حين منحهم ستالين السلاح.

الإشارة المفاجئة في هذا الحوار تقول إن الإسرائيليين يؤمنون بأن لا فضل للأميركيين في إنشاء دولتهم بل إنها إنجاز خالص لهم، وإذا كانوا رعوها في مراحل لاحقة فلأن ذلك جاء استجابة لمصالحهم. "بقاؤنا لا يعتمد على هداياك وإذا كان يجب أن نقاتل فسنقاتل وحدنا"، تقول غولدا هذه العبارة لكيسنجر، راسمة ملامح عقيدة إسرائيلية ثابتة.

ليس هناك من دَين أميركي على الإسرائيليين، لا في لحظة نشوء دولتهم ولا في استمرارها على قيد الحياة. يضيء هذا العنوان على العلاقة الأميركية الإسرائيلية في تلك المرحلة، لكنه يوجه كذلك رسائل تخاطب واقع العلاقات القائمة بينهما الآن، إذ إنه كان لافتا تكرار المنطق نفسه في ما يخص الموقف الأميركي من إيران التي ترى فيها إسرائيل تهديدا وجوديا وتهدد بشن حرب ضدها وحدها من دون موافقة الإدارة الأميركية.

 

السلام إسرائيليا

مسار السلام كما يظهره الفيلم يبدو شأنا داخليا إسرائيليا بالكامل صنعه التفوق العسكري والاستعداد لذبح ثلاثين ألف جندي مصري محاصر وخلق جيش من اليتامى والأرامل وكذلك الإصرار على مواجهة الجميع من حلفاء وأعداء، لذا فإنه انطلاقا من هذا التعريف لا يحتاج فعليا إلى شركاء.

غاب الحضور العربي في الفيلم ولم نر ماذا كان يحدث في المقلب الآخر وكذلك لا نعثر على إشارة إلى الفلسطينيين. مفهوم السلام وفق المنطق الإسرائيلي يراكم نفيين هما نفي الوجود الفلسطيني ونفي الدور العربي في بناء مفهوم السلام. الفلسطينيون لا يشكلون حالة تستدعي النقاش أو التفاوض، والسلام لا يحتاج إليهم أصلا، فهم ليسوا مؤثرين ولا فاعلين فيه، ليسوا طرفا في الأساس، والعرب لا يصنعون السلام بل ينخرطون فيه، وينفذون شروطه.

يحاول الفيلم الإيحاء بأن السلام لطالما كان مشروع إسرائيل الأساسي ويعمد إلى إبراز التناقض في المبادئ والقيم مع العرب كسياق يدعم هذه الحجج ويعطيها تماسكا. يتعلق العنوان الأبرز بالاختلاف في النظر إلى قيمة حياة الجنود والمواطنين، فبينما ينظر الإسرائيليون إلى حياة جنودهم ومواطنيهم بشكل تقديسي، تكثر الإشارات الدالة على أن القادة العرب يستخفون بأرواح جنودهم ومواطنيهم. فالشرط الأول والأساسي الذي وضعته مائير للتفاوض كان إطلاق سراح الأسرى وتسليم الجثث قبل كل شيء، وحين سألها كيسنجر عما إذا كانت تعتقد أن الطرف العربي لن يطالب بالمثل ردّت ساخرة مؤكدة أن العرب لا يبالون بأرواح جنودهم، وكأن ذلك ليس رأيا بل حقيقة.

خلال مثولها أمام لجنة التحقيق، "أغرانوت"، التي تشكلت بعد الحرب بغية الكشف عن القصور الأمني والاستخباراتي، بدت مائير حريصة على توثيق أعداد القتلى والجرحى الإسرائيليين بشكل شخصي. تتكرر الإشارات حول عدم وضع القيادات العربية أرواح الجنود ومصير الأسرى واستعادة الجثامين في قائمة الأولويات.

يتعمّم التفوق الأخلاقي الحاسم في النظر إلى قيمة حياة الجندي ويتوسّع ليصبح عقيدة السلام، بينما العرب وفق نظام قيمهم الذي يبخس الحياة البشرية عموما ليسوا صناع سلام، ولكن إسرائيل بتفوقها الكامل في الميادين العسكرية والأخلاقية نجحت في أن تفرضه عليهم، وبذلك تكون فكرة السلام تظهيرا لانتصارها.

 

Golda (2023)

تحاول إسرائيل نقل هذا المنطق الى سياقات التفاوض الحالية، حيث تشترط السعودية العمل على إيجاد حل للأزمة الفلسطينية من ضمن مجموعة عناوين عريضة تطرحها للدخول في التفاوض مع إسرائيل حول السلام، ولكن إسرائيل لا تعتقد أن الشأن الفلسطيني قائم فعلا بل تراه جزءا من سياق داخلي إسرائيلي خاص.

وفي ترميز أقصى لمفهوم السلام في نظر إسرائيل، يطالعنا مشهد غولدا مائير وهي تقفل سماعة الهاتف في وجه وزير الخارجية الأميركي الذي كان يحذّرها من أن سلوكها التصعيدي سيستجر تدخلا سوفياتيا مباشرا وتوترا دوليا لا تريد أميركا الخوض فيه في ظل فضيحة التجسّس التي كانت تعصف بعهد الرئيس ريتشارد نيكسون وإدارته.

تعرض مطالبها وتقفل السماعة بحسم. تفعل إسرائيل ذلك مع حليفها الأبرز والداعم الأكبر لها وضامن استمرارها في مشهد يختصر نظرة إسرائيل إلى التفاوض والسلام التي أثبتت مآلات الأمور والسياقات الجارية أنها لم تتغير وتتطور بل تصلبت وتجمدت كما هي حال العصافير الميتة المنقبلة على ظهرها في ممشى طويل في مشهد الفيلم الختامي المشحون بصوت ليونارد كوهين يغني "من بالنار" who by fire.

font change

مقالات ذات صلة