أسوق في ما يلي فقرات لمؤلفين ترجموا نصوصهم أو أعادوا النّظر في ترجمتها.
الفقرة الأولى للفيلسوف رينيه ديكارت من تقديم الترجمة اللاتينية للكتاب الذي يشكّل المقال في المنهج مقدمته: "هذه المقالات الَّتي كنتُ قد كتبتها باللغة الفرنسيَّة ونشرتها منذ ستِّ سنوات نقلها أحد الأصدقاء بعد وقتٍ قصير إلى اللَّاتينيَّة، وقد أحيلت عليّ هذه التَّرجمة لأُغيِّرَ فيها بحرِّيَّة ما أشعر بالحاجة لإعادة قوله. وهذا ما فعلتُه في العديد من الفقرات، وقد أكون أهملت العديد غيرها بحيثُ ستتمّ ملاحظة الفرق بين هذه وتلك، من حيث إنّ المترجم الوفيَّ قد حاول نقل نصِّي حرفيا، أما أنا فغالبا ما عملت على تصحيح المعاني التي ضمنتها نصّي، وليس الألفاظ التي استعملها المترجم".
قبل أن نعود إلى هذه الفقرة، أورد فقرة أخرى مأخوذة من مقال كتبه جان بيير لوفيفر سنة 1983 ضمن العدد 233 من مجلّة لابانسي تحت عنوان: "التّرجمة الفرنسية الأولى لكتاب الرّأسمال":"تلك إذن، باختصار سريع، ظروف ظهور التّرجمة الفرنسية الأولى لكتاب الرأسمال. لم يكن من الممكن بالنّسبة إلى ماركس، بفعل المدّة التي قضاها في المراجعة، ألاّ تعادل هذه التّرجمة، في نظره، طبعة خاصة للكتاب الأوّل من الرأسمال، أي أن تكون نصّا أصليا. علينا أن نتخيّل ماذا كانت ستسفر عنه مراجعة ماركس للتّرجمة الإنكليزية: ما من شكّ في أنّه ما كان ليكفّ عن كتابة هذا العمل الذي لم يتوقّف منذ سنة 1844 عن كتابته وإعادة كتابته، والذي كان نصّه الأصليّ، الذي أنجز في صيغته الألمانية سنة 1867، قد عرف النّشأة المستأنفة ذاتها التي ما فتئت تتواصل".
الفقرة الثالثة للكاتب التشيكي ميلان كونديرا، الذي كان قد"طُرد تقريبا" على حدّ تعبيره، نحو فرنسا سنة 1975، فكتب في جريدة "لوموند" سنة1993، بعد أن عمل، هو نفسه، على تدقيق معظم التّرجمات الفرنسية لرواياته التي كانت قد حرّرت بالتشيكية، وبعد أن قرّر ألايعتبر الصيغة الفرنسية لأعماله مجرّد ترجمة: " أعتبر النصّ الفرنسي كما لو كان نصّي أنا، وأسمح بنقل رواياتي إمّا عن اللغة التشيكية أو عن الفرنسية، إلا أنّني أميل إلى تفضيل الاختيار الثّاني".
الفقرة الرابعة أستقيها من مقدّمة المفكر عبد الله العروي للتّرجمة الذاتية لكتابه الإيديولوجية العربية المعاصرة، حيث كتب في ص14: "سيطّلع القارئ إذن لأول مرّة على النصّ الأصليّ لهذا الكتاب".
ما يلفت نظرنا في فقرة ديكارت التي أوردناها، هو اعترافه للمترجم بالوفاء، إلا أنّنا نشعر وكأنّه يأخذ على النصّ المترجِم هذا الوفاء للأصل، أو لنقل، على الأقلّ، هذا الالتصاق به. لذا يسمح ديكارت لنفسه، لا بتعديل الترجمة، وإنّما بتعديل معاني النص الفرنسي ذاته
الفقرة الأخيرة آخذها من الحوار الذي أجريته مع عبد الفتاح كيليطو، والذي نُشر في مجلة "الفيصل"، بمناسبة حصوله على جائزة الملك فيصل، حيث يقول كيليطو:
"الغريب في الأمر في تجربتي الكتابية أنّني أعتبر النصّ المترجَم كأنه النصّ الأصليّ، فيصير الما بعد زمنيا هو الما قبل. هذا ما حصل على سبيل المثال مع رواية والله إنّ هذه الحكأية لحكايتي التي أنجزت أولا بالفرنسية، لكنّني أراها مجرد تمرين، مسوّدةٍ للنص العربي. تبدو لي النّسخة العربية هي الأصل، والنّسخة الفرنسية بمثابة ملحق، تذييل، ظلّ ونظير. ومما يزيد من شعوري هذا أنّ النسخة العربية صدرت قبل النسخة الفرنسية. وحين يسألني القراء عن لغة النّسخة الأولى يتملّكني شعور بالدّهشة وأفكر هنيهة قبل أن أهتدي إلى الجواب وأصرّح أنها بالفرنسية، على الرغم من رفضي غير المنطقي لهذه الحقيقة".
نعود بعد هذا إلى محاولة النّظر في مضمون هذه الفقرات والرّبط فيما بينها.
وجَد ديكارت نفسه مضطرا إلى إعادة قراءة التّرجمة اللاتينية التي قام بها أحد أصدقائه الذي لا يذكر اسمه، سنة 1644 لكتابه الذي يضمّ المقال في المنهج مقدمة، والذي كان قد صدر باللّغة الفرنسية سنة 1637. يعترف ديكارت في التّقديم لهذه التّرجمة أنّه يعتبرها طبعة ثانية للمقال، لكن باللّغة اللاّتينية(نضيف نحن: مزيدة ومصحّحة). المهمّ أنّ كبار شرّاح ديكارت أوْلوْا عناية لهذه الصيغة اللاتينية. وهكذا، فبعد أن يشير إيتيان جيلسون إلى الطّابع الحرفي لهذه الترجمة فإنّه يعتبرها، كما يقول: "أداة ثمينة لتأويل النصّ الفرنسي".
ما يلفت نظرنا في فقرة ديكارت التي أوردناها، هو اعترافه للمترجم بالوفاء، إلا أنّنا نشعر وكأنّه يأخذ على النصّ المترجِم هذا الوفاء للأصل، أو لنقل، على الأقلّ، هذا الالتصاق به. لذا يسمح ديكارت لنفسه، لا بتعديل الترجمة، وإنّما بتعديل معاني النص الفرنسي ذاته. اللفظ الذي يستعمله هو تصحيح corriger النصّ الفرنسي. فكأنّ الترجمة اللاتينية فضحت عيوب النصّ الفرنسي ونواقصه، وكأنّها كتابة ثانية للمقال، وطبعته الثانية كما يقول صاحبه. وما يلفت نظرنا أيضا هو إحساس ديكارت بأنه سيتحرر بهذه المناسبة من الأصل الفرنسي je change librement. قد يقال لماذا لم يلجأ صاحب المقال في المنهج منذ البداية إلى تحرير مقالاته باللغة اللاتينية، كما سيفعل في كتب أخرى، خصوصا وأنّ اللاتينية هي لغة العلم وقتئذ؟ يجيبنا ديكارت نفسه عن هذا السؤال، في فقرة ظهرت في النص الفرنسي، لكنّ المترجم حذفها في الصّيغة اللاتينية، يقول فيها ديكارت: "إذا كنت أكتب باللّغة الفرنسية، التي هي لغة بلدي، عوض اللغة اللاتينية التي هي لغة معلّمي، فذلك لأنّني آمل أنّ الذين لا يستعملون إلا فطنتهم الطبيعية، سيتمكّنون من الحكم على آرائي أكثر من أولئك الذين لا يثقون إلا بالكتب القديمة. أما بالنّسبة إلى أولئك الذين يجمعون بين الفطنة ودراسة الأقدمين، والذين أتمنّى أن يكونوا هم من يحكمون عليّ، فأنا على يقين أنّهم لن يتحيّزوا للّغة اللاتينية بحيث يمتنعون عن الإصغاء إلى حججي لكوني اعتمدت في شرحها لغة العامّة".
هذه الموازنة بين اللغتين، واختيار إحداهما عوض أخرى نجدها في الكتابة المعاصرة عند من تولّوا نقل مؤلّفاتهم إلى لغة أخرى، لما يلمسونه بين اللّغتين من فروق. خير مثال على ذلك التّرجمات الذاتية لصموئيل بيكيت. فالمعروف أن الكاتب الإيرلنديلم يكن ليختار لغة الأصلجزافا أو لأسباب بعيدة عن الكتابة. فإن كان ينطلق في رواياته من الفرنسية، فـ "لجماليتها المتقشفة" كما بيّن أحد النّقاد، وإن كان في مسرحياته ينطلق من اللغة الإنجليزية، فـ "لبراعة خطابها"، هذا إن سلمنا أنه ينطلق من نصّ أصل كما سبق أن رأينا، إذ إنّه، وكما بيّن بعض المهتمين بأعماله، لم يكن يتعامل مع النصّين واللغتين كمترجم، ولم يكن يشعر في الحالتين كلتيهما أنّه أمام أصول مكتملة، فهو كان يعيد الكتابة حتى وهو يترجم، ولم تكن التّرجمة الذاتية عنده إلا إعادة كتابة. لا يتعامل بيكيت إذن مع لغتين متكافئتين. فإن كانت الواحدة منهما تصلح منطلقا في ميدان، فالأخرى تكون أكثر ملاءمة في ميدان آخر.
في الفقرة المتعلّقة بكتاب الرّأسمال نلفي الظّاهرة نفسها، وهي أنّ مراجعة الترجمة لا تكتفي بمعالجتها على ضوء النصّ الأصلي، وإنّما سرعان ما تجرّ المؤلف إلى مراجعة الأصل لكتابته وإعادة كتابته، بل لتوليد نصّ بلغة أخرى يشعر المؤلف نحوه كأنّه، كما يقول ماركس، "طبعة خاصة للكتاب"، إن لم نقل طبعة ثانية كما وجدنا عند ديكارت.
بهذا تغدو كلّ ترجمة نوعا من التّنقيب عن مسوّدات الكاتب الثّاوية خلف مُبيَّضته. فكأنّ مسعاها هو أن تعيد إلى النصّ مخاض ميلاده، فتنفخ فيه الحياة من جديد، وتلبسه حياة أخرى ولغة أخرى
لننتقل الآن إلى فقرة م. كونديرا: لا بأس أن نشير إلى ما سبق للكاتب التشيكي أن صرح به في أحد حواراته على الشّاشة الصّغيرة: "عندما تحيا بين لغتين، وعندما تُخضع لغتك لمراقبة لغة ما فتئتَ تُنقل إليها، فكأنّ هاتين اللغتين تريان بعضهما في مرآة، وكما لو أن كلّ كلمة تستعملها، فإنّك تستعملها بأقرب ما يكون إلى الضّبط والدّقة". فكأنّما تغدو التّرجمة هنا أداة للوعي بدلالات الأصل، بله بحدود اللّغة. نحن بعيدون هنا عن معاني الضّيم والظّلم التي استعملها جاحظنا، وإنّما أمام استعارة المرآة التي ترى فيها اللغة لغة أخرى. تكشف التّرجمة لصاحب النّص اشتراك ألفاظه، ولبس معانيه، وتعدّد تأويلاته، حتى إنّه يشعر أنّه لم يكن ليتبيّن هذه الصّعوبات، لولا سعيه إلى نقل النصّ إلى لغة أخرى. فكأنّ عملية التّرجمة هي التي تسلّط الأضواء على النصّ الأصلي، فتكشف، حتى للمؤلف نفسه، ما تضمره اللغة الأصلية، بل إنّها تُبِين في بعض الأحيان عن نواقص "الأصل" كما رأينا عند ديكارت.
وعلى ذكر الأصل لننتقل إلى فقرة العروي التي يُطمئن فيها قارئ ترجمته هو قائلا: "سيطّلع القارئ إذن لأوّل مرّة على النصّ الأصليّ لهذا الكتاب". ولكن، ما معنى النصّ الأصلي في هذا النّوع من الكتابة-الترجمة؟ فإن كان الأصل هو ما صدر عن المؤلف، فنحن هنا أمام نصّين يصدران معا عن المؤلّف نفسه. النصّ الذي سبق له أن ظهر باللغة الفرنسية سنة 1967، والنصّ العربي الذي ينعته صاحبه بأنّه الأصل والذي ظهر سنة 1996. فكأنّ التّرجمة الذّاتية تضع موضع سؤال التمييز بين الأصل والنّسخة، بله التمييز بين المؤلّف والمترجِم، بين الإبداع والتّرجمة. أو لنقل، على الأقل، إنّ مفهوم الأصل يفقد فيها القيمة التي كانت تُعطى إياه. لذا، فعندما يُدخِل المؤلف تعديلا على نصّه عند نقله إلى لغة أخرى، لا نقول إنّه يخون النصّ في هذه الحالة، بل نكتفي بالقول إنه يعدّله، أو يعيد كتابته، أو كما قال ديكارت: يصحّحه. كأن النّسخة هنا لا تتقيد بأصل، وبتعبير ديكارت تتحرّر منه. أو لنقل، على الأقل، إن النّسخة تفقد هنا دونيتها، كي تغدو مكافئة للأصل.
هذا ما تؤكده كذلك الفقرة التي أوردناها لكيليطو الذييجعل التّرجمة ترقى بالنصّ، كما قال دريدا، بل وكما قال الجاحظ قبله في كتاب الحيوان: "وقدنُقلت كتب الهند، وتُرجِمت حكم اليونان، وحُوّلت آداب الفُرس؛ فبعضها ازداد حسنا". كأنّ الترجمة تجعل الأصل نسخة، أو كما يقول، كيليطو في تلك الفقرة: "تجعله ظلا لها".غير أنّ كيليطو، على ما يظهر يذهب أبعد من ذلك حينما يقول إن النصّ الفرنسي لروايته الأخيرة، هو مجرد مسوّدة. وهو يلتقي هنا مع بورخيس الذي يقول إن النّص لا يعتبر أصليا إلا من حيث كونه إحدى المسوّدات الممكنة التي تعبّد الطريق لنصّ سيُكتب بلغة أخرى. في هذه الحال، وإن تشبّثنا بالحديث عن خيانات الترجمة، فإنّ الأصول، وكما يرى بورخيس أيضا، هي التي ستخون ترجماتها.
ولكن، لا ينبغي أن ننسى أن موقف بورخيس يمكن أن يحمل معنى أقوى. فربما كان مسعى المفكّر الأرجنتيني أن يبيّن أن الترجمة إذ ترى في الأصل مسوّدة، فلأنها تنظر إلى كل نصّ، سواء ذاك الذي انطلق منه المؤلّف، أو ذاك الذي عدّله، على أنّه دوما قبل-نص pré-texte. بهذا تغدو كلّ ترجمة نوعا من التّنقيب عن مسوّدات الكاتب الثّاوية خلف مُبيَّضته. فكأنّ مسعاها هو أن تعيد إلى النصّ مخاض ميلاده، فتنفخ فيه الحياة من جديد، وتلبسه حياة أخرى ولغة أخرى وميلادا آخر، وهذا خصوصا إن تمّت على يد صاحب النصّ نفسه، أو إن هو أولاها عنايته، ولعلّ هذه هي النقطة المشتركة بين الفقرات التي أوردناها جميعها.