أطلق على تلك المرحلة الحالكة من تاريخ المغرب الاقتصادي والاجتماعي بـ"زمن السكتة القلبية"، كما وصفها الملك الراحل الحسن الثاني، في إحدى رسائله إلى رئيس البنك الدولي، جيمس وولفنسون، عاش خلالها المغرب سلسلة من الاضطرابات الاجتماعية العنيفة بين عامي 1981 و1990، باسم انتفاضات الخبز التي طالت كل دول شمال أفريقيا من الجزائر إلى مصر مرورا بتونس، وكل هذه الدول كانت تحت وصاية برامج التقويم الهيكلي مع صندوق النقد الدولي.
"الربيع العربي"
تحسن الوضع الاقتصادي بين عامي 1968 و2011، وارتفع الدخل الفردي من 220 دولارا إلى 3000 دولار، وزاد متوسط العمر من 48 سنة عام 1960 إلى 75 سنة عام 2015. لكن "الربيع العربي"، وقبله الأزمة المالية العالمية عام 2008، لم يساعدا في الحفاظ على معدلات النمو التي كانت تقدر بـ5 في المئة في العقد الأول من الألفية الثالثة، وتعد من بين الأفضل في العالم.
فجأة، تدهورت الموازنة المغربية بعد أزمة الرهن العقاري ودومينو سقوط المصارف الأميركية والأوروبية وإفلاسها. ارتفع العجز المالي إلى 7,5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، واقترب عجز ميزان المدفوعات الخارجية من 10 في المئة، وظهرت الصعوبات المالية وتداعياتها الاجتماعية، في وقت تصاعد لهيب حريق الربيع العربي من تونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن، ومن لم يحترق بيته وصله دخان الجيران.
سارع صندوق النقد الدولي في صيف 2011 إلى اقتراح خطوط سيولة ائتمانية (Precautionary and Liquidity Line - PLL) بسقف 14 مليار دولار، ولمدة سنتين قابلة للتجديد، لتغطية الأخطار الخارجية وعدم اليقين في الأسواق الدولية. هذه المرة جاءت المبادرة من "بريتون وودز" في واشنطن بعد إقرار دستور جديد في المملكة، يتضمن إصلاحات كبيرة في مجال الحوكمة وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية. وأعلن صندوق النقد الدولي أنه يدعم التجربة المغربية ويراهن على نجاحها وتعميمها إلى كل المنطقة بعد انقشاع دخان حرائق الجيران. لم يعد المغرب بالنسبة إلى الصندوق مجرد "زبون"، بل أصبح قائد تجربة ورهان جيواستراتجي في كل منطقة شمال أفريقيا والشرق الأوسط، لتعميم الاستقرار السياسي واجتذاب مزيد من الاستثمارات الأجنبية والاندماج في الاقتصاد الدوليوالافادة من العولمة والتجارة العالمية.
واعتبر الصندوق نجاح تجربة المغرب في صناعة السيارات وأجزاء الطائرات التي انفرد بها في المنطقة العربية وأفريقيا من إيجابيات الانفتاح على الاستثمار الخارجي والعولمة. ولم يتوان الصندوق عن تغطية نصائح سلبية قديمة بأفكار جديدة، نضجت مع الزمن من تجربة الآخرين والتعامل معهم. حتى أن أحد الخبراء كشف أن الصندوق استلهم كثيرا من الأفكار المغربية في مجال التنمية المستدامة والبنى التحية والاقتصاد الاستباقي، اعتمدها الصندوق كنصائح لتطوير قدرات اقتصادات دول أخرى.
مع مرور الزمن، فقد صندوق النقد تأثيره على المغرب بعد الاستغناء عن استخدام حقوق السحب الخاصة، ونجاحه في تحقيق مناعة اقتصادية بالاعتماد على الذات والخبرات المحلية في مجالات يسعى الصندوق إلى إشراك المغرب في تطويرها في مناطق أخرى، خصوصا أفريقيا جنوب الصحراء. وكانت الفرصة مواتية زمن جائحة كوفيد-19 عندما انتقد البنك الدولي سلوك الدول المتقدمة وجشعها وأنانيتها في توزيع اللقاحات. في المقابل دعم مشاريع المغرب في إنشاء وحدات صناعية صيدلانية لإنتاج الأدوية واللقاحات المختلفة لتغطية حاجة القارة السمراء التي حرمت منها زمن "كوفيد".
عودة الأزمات
بعد تسع سنوات من "الربيع العربي"، حلت جائحة كوفيد-19 بكل متاعبها، إذ انكمش النمو للمرة الأولى 7 في المئة، وعجز الموازنة 8 في المئة، وتدهور ميزان المدفوعات الخارجية من جديد بارتفاع العجز التجاري وشح عائدات السياحة المتوقفة في كل العالم.
استخدم المغرب هذه المرة الخط الائتماني الوقائي من صندوق النقد الدولي بقيمة 3 مليارات دولار لمواجهة إغلاق الحدود وتوقف السياحة. لكنه لم يستخدم فعليا من هذه التمويلات سوى ملياري دولار بعد تحسن الاقتصاد عام 2021 وتحقيق نمو بنسبة 8 في المئة بعد ضخ تمويلات محلية إضافية بقيمة 13 مليار دولار لإنعاش الاقتصاد وسوق العمل.
لكن الأزمة تكررت مع شح الأمطار وتراجع الإنتاج الزراعي وارتفاع الأسعار الدولية عام 2022، مما اضطر المغرب إلى طلب خط ائتماني مرن (Flexible Credit Line - FCL) بقيمة 5 ملياراتدولار يمكن استخدامه عند الحاجة، لمواجهة تداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا ومشكلة الإمدادات. سبق ذلك إخراج المغرب من اللائحة الرمادية لمجموعة العمل المالية في باريس كشرط أولي للحصول على الدعم.
لكن تكلفة تحرير الأسعار، خصوصا المحروقات، كان لها تأثير سلبي على الأسعار والتضخم وأضرت بالطبقات الوسطى التي اكتوت أيضا بأسعار الفائدة المصرفية المرتفعة، حيث كان الصندوق يربط كل دعم مالي بتحرير الاقتصاد وبزيادة مساحة اقتصاد السوق.
نصائح الصندوق
حاليا، يضغط الصندوق على الرباط لتوسيع مجالات تحرير سعر صرف الدرهم، إلا أن المصرف المركزي يعتقد أن الظرف الدولي غير مساعد لمزيد من التعويم بعدما بلغ 10 في المئة على مرحلتين، 5 في المئة صعودا أو هبوطا. وقال محافظ المصرف المركزي عبد اللطيف الجواهري لـ"المجلة" إن المملكة لا تقبل أي ضغط أو إكراه في مجال حرية الصرف؛ "نحن نتحين الفرص المناسبة لتوسيع الهامش كلما تحسنت الأوضاع الدولية، لنا احتياط نقدي يكفي 7 شهور من الواردات". لافتا إلى "أن التعويم قد يستغرق في المتوسط 15 إلى 20 سنة، نحن غير متسرعين ولنا خطتنا وقرار وتيرة سرعتها، ونتجه حاليا نحو إصدار عملة رقمية يمكن اعتمادها في المعاملات التجارية والمصرفية كافة".