لم تمض ساعات على نهاية يوم الذكرى الخمسين لحرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973 حتى فوجئ الإسرائيليون بهجومٍ عسكري شنته وحدات تابعة للجهاز العسكري لحركة "حماس" انطلاقًا من قطاع غزة. هجومُ فلسطيني لا سابق له في تكتيكه وحجمه ومداه، ولكنه مسبوقُ في الطريقة التي شُن بها اعتمادا على مفاجأةٍ كاملة من النوع الذي حدث في حرب 1973. ولهذا كان طبيعيا أن يستعيد كثيرُ من العرب، وغيرهم، أجواء ما حدث قبل نصف قرن عندما فاجأت القوات المصرية والسورية إسرائيل.
غير أنه مثلما يوجد ما يجمع حرب 1973 وعملية 2023 العسكرية، هناك أيضًا ما يُفّرقُهما. وكما أن بينهما أوجه تشابه، فثمةُ أوجهٍ اختلاف في الوقت نفسه.
أوجه التشابه:
تدور أوجه التشابه حول المفاجأة وما اقترن بها من فشل استخباراتي إسرائيلي. أخفق كلُ من جهاز الاستخبارات والمهمات الخاصة "موساد"، وجهاز الاستخبارات العسكرية "أمان"، في رصد خطوات الإعداد لكل منهما.
وعندما تسنى لـ"موساد" تكوين فكرة أولى عن التحرك المصري والسوري لشن حرب، كان الوقتُ قد تأخر, حسب ما أكدته مُجددًا وثائقُ إسرائيلية رسمية رُفعت السرية عنها قبل نحو شهر من الذكرى الخمسين لتلك الحرب. لم يعرف "موساد" أن الهجوم المصري-السوري بات وشيكًا إلا قبل 6 ساعات ونصف (الساعة 7.30 صباحًا بتوقيت إسرائيل). وأدى هذا التأخر الشديد إلى ارتباك شديد, وخاصةً أن معلوماته لم تكن دقيقة تماما, إذ بدأ الهجوم قبل بضع ساعات من الموعد الذي أبلغه إلى حكومة مائير.
تكرر هذا الفشل الاستخباراتي بعد 50 عاما، ولكن ربما بدرجة أقل. كان الفشل في 1973 هائلاً لأن الحرب التي شنتها إسرائيل في 1967 لم تنته بسكوت مدافعها وإعلان وقف إطلاق النار، إذ سرعان ما استؤنفت في صورة ضربات استنزاف متبادلة، وظلت أجواؤها مخيمة في المنطقة. ولم يكن صعبا، والحال هكذا، توقع حدوث هجوم مصري أو سوري أو مزدوج كان ممكنا معرفة موعده في حال أداء جهازي "موساد" و"أمان" دورهما بكفاءة.
ربما أسهم امتناع "حماس" عن المشاركة في المعركة التي حدثت بين إسرائيل وحركة "الجهاد" العام الماضي في التهاون في رصد الإعداد لهذه العملية
أما عملية "طوفان الأقصى" التي قامت بها وحدات فلسطينية مسلحة أخيرا فلم يكن سهلا توقعها. كان الوضع هادئا على حدود قطاع غزة وإسرائيل في الفترة التي سبقتها، رغم فشل المفاوضات حول تبادل أسرى. وربما أسهم امتناع "حماس" عن المشاركة في المعركة التي حدثت بين إسرائيل وحركة "الجهاد" العام الماضي في التهاون في رصد الإعداد لهذه العملية. وهذا فضلا عن أن ما كان ظاهرا من قدرات "حماس" العسكرية لم يدل على أنها تستطيع القيام بعمليةٍ بهذا المستوى نوعًا وكمًا.
وبسبب هذا الفرق في الظروف التي أحاطت الإعداد لحرب 1973 وعملية 2023، لجأت حكومة الرئيس أنور السادات إلى أشكال من الخداع الاستراتيجي والتمويه التكتيكي، ونجحت في رسم صورة أفادت أنها لا تنوي شن حرب في وقت قريب. وكان السماحُ لضباط مصريين بإجازات، ولآخرين منهم بالسفر لأداء العُمرة، أثرُ قوى في خلق انطباع بعدم وجود استعداد لحرب قريبة.
وفي المقابل، لم تكن حركة "حماس" في حاجة إلى مثل هذا الخداع والتمويه لأن قيامها بشن عملية عسكرية كبيرة كان خارج أي توقع. ومع ذلك نجحت في تحقيق تمويه عملياتي أسهم بدرجة كبيرة في امتلاك مُقاتليها زمام المبادرة على الأرض للمرة الأولى. فقد بدأت عمليتها بقذائف صاروخية واسعة فأعطت انطباعا بأن ما تقومُ به ليس إلا إعادة إنتاج ما حدث في معارك غزة السابقة التي اعتمدت فيها على القصف من داخل القطاع. وكان لهذه الكثافة الصاروخية وظيفةُ ثانيةُ مهمة أيضًا, إذ وفرت غطاء لمئات المقاتلين للتسلل إلى مستوطنات غلاف غزة.
الفرق جد كبير بين القوات المصرية والسورية في حرب اكتوبر 1973 عددا وعُدة، والمقاتلين الفلسطينيين الذين عبروا حدود قطاع غزة, ونجحوا في تنفيذ عملية عسكرية كبيرة في وقت مبكر من صباح 7 أكتوبر 2023
تسلل أكثرهم عبر البر، وحملت 5 زوارق بعضهم بحرًا, وهبط بعضُ ثالث من السماء بواسطة ما بدا أنها طائرات شراعية هوائية Hang Gilders، وفاجأوا الجنود الإسرائيليون الذين لوحظ أن أدائهم القتالي أضعف من المعتاد، الأمر الذي أعطى المهاجمين فرصة للسيطرة على عدد كبير من المواقع لساعات طويلة.
وهكذا يجوز القول إن المفاجأة وما اقترن بها من فشل استخباراتي هي القاسم المشترك الأساسي بين حرب 1973 وعملية 2023 العسكرية.
أوجه الاختلاف:
تدور أوجه الاختلاف حول الفرق بين طبيعة حرب 1973 وعمليه 2023 وهدف كل منهما. شنت مصر وسوريا حربا نظامية شاملة شارك فيها عشرات الآلاف من الجنود من القوات البرية والبحرية والجوية والدفاع الجوي. ففي الجبهة المصرية مثلاً، كانت هناك خمس فرق مشاة ضمت حوالي 80 ألف جندي في الموجة الأولى للهجوم وحدها، واستخدمت ألف قارب مطاطي لعبور القناة على خط مواجهة طوله حوالى 170كم. عبرت تلك القوات قناة السويس ظهر 6 أكتوبر 1973، وحطمت خط بارليف الذي أُقيم ليكون جدارا منيعا ومانعا لمثل هذا الهجوم، واستولت على النقاط العسكرية الإسرائيلية الحصينة، في الوقت الذي كانت القوات الجوية تدك النقاط الأبعد مدى وتفرض سيطرة على أجواء المنطقة.
والفرق جد كبير بين هذه القوات عددا وعُدة، والمقاتلين الفلسطينيين الذين عبروا حدود قطاع غزة, ونجحوا في تنفيذ عملية عسكرية كبيرة في وقت مبكر من صباح 7 أكتوبر 2023. وتكفي الإشارة إلى أنه بعد عدة دقائق من بداية حرب 1973، كان نحو ثمانية آلاف جنديٍ مصري قد ثبَّتوا أقدامهم في الضفة الشرقية للقناة. وعدد هؤلاء وحدهم أكبر بكثير من عدد المقاتلين الفلسطينيين الذين شنوا عملية "طوفان الأقصى"، على نحو يجعل المشهدين مختلفين تماما عدا ما يتعلق بنجاح المفاجأة في كل منهما. ورغم تدخل واشنطن في الحالتين لدعم اسرائيل, فالفرق هائل كما ونوعا بين الأسلحة التي طلبت إسرائيل إمدادها بها عبر جسر جوي. وفيما نُقلت كميات ضخمة من أحدث الأسلحة الأميركية حينها عبر هذا الجسر في 1973, لم تطلب إسرائيل في 2023 سوى بطاريات الصواريخ الاعتراضية اللازمة لاستمرار تشغيل نظام "القُبة الحديد" تحسبًا لتواصل إطلاق صواريخ من القطاع لأيام طويلة.
نجحت "حماس" في تحقيق تمويه عملياتي أسهم بدرجة كبيرة في امتلاك مُقاتليها زمام المبادرة على الأرض للمرة الأولى. فقد بدأت عمليتها بقذائف صاروخية واسعة فأعطت انطباعا بأن ما تقومُ به ليس إلا إعادة إنتاج ما حدث في معارك غزة السابقة التي اعتمدت فيها على القصف من داخل القطاع
ونجد اختلافا مهما أيضا في طبيعة كلٍ من حرب 1973 وعملية 2023. استهدفت الحرب تحرير أراضي مصرية وسورية احتُلت عام 1967، أو أكبر مساحة ممكنة منها، لتغيير ميزان القوى في مفاوضات لابد أن تعقب أي حرب. أما هدف عملية 2023 فيتركز في تعديل قواعد الاشتباك عبر نقل المعركة إلى داخل إسرائيل, وإلحاق أكبر خسائر ممكنة بقواتها ومستوطناتها وبعض مدنها, وأسر أكبر عدد من الضباط والجنود والمستوطنين الإسرائيليين من أجل تحرير الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال.
ولاختلاف الهدفين فمن الطبيعي ألا يتمسك المقاتلون الفلسطينيون بالمناطق التي سيطروا عليها، بخلاف القوات المصرية والسورية التي تمسكت بالأراضي التي حرَّرتها. ولأن نجاح القوات المصرية كان أكبر، فقد أحدث تحريرُها مساحةً يُعتدُ بها في سيناء التغيير الذي كان مستهدفا في ميزان القوى على نحو أتاح السعي إلى استعادة الأرض التي احتُلت في 1967 كاملة عن طريق المفاوضات.
وفيما فتحت حرب 1973، على هذا النحو، الباب أمام سلام كان مستحيلاً قبلها، تظل عملية 2023 العسكرية حلقةً في سلسلة معارك قطاع غزة، وفي مسار الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي بوجه عام. ويبدو هذا الفرق جليًا عندما نقارن بين خطاب السادات في 18 أكتوبر/تشرين الأول 1973 أمام البرلمان, وخطابات قادة "حماس" في اليوم الأول لعملية "طوفان الأقصى".