يُفاقِمُ "أوبنهايمر" المزيد من الاهتمام السينمائي هذا الموسم مُستأثرا بفضول المشاهدات المتواصلة، واطّرادِ الكتابات النقدية واختلاف الرأي حوله في المرئي والمسموع والمكتوب من الصحافة والمتلقّين الهواة والمختصين على حدّ سواء، وبالنّظر إلى الميزانية الضخمة التي باتت أفلام المخرج كريستوفر نولان تتفرّد بها بملء الذهول، فالالتفات إلى بدايته الطّريفة تستدعيها هذه الطفرة الصّارخة من نجاحه المبهر، والمقصود بالذّات فيلمه الأوّل "تتبُّع" 1998 كيما نستعيد مغامرة الدّرس البصري البِكر للمخرج، للوقوف على غرابة المفارقة التي ينهض عليها برج نولان السينمائي.
"تتبُّع" إذن، هو أوّل الأفلام الطويلة للمخرج البريطاني/الأميركي بسنّ الثامنة والعشرين، إنّه محض مجازفة، إذ ميزانيّته لا تتعدّى 10 ألف دولار، وهي من تمويل المخرج نفسه، وأمّا الممثلون فقد راهن على أصدقائه وأقربائه، حتّى أنّ التصوير تمّ في منازل ومطاعم وحانات بعضهم تطوّعا منهم، كذلك ملابسهم وأكلهم وتنقلاتهم، بما في ذلك ساعات التصوير التي كانت تُنجز خلال أيام عطل الأسبوع في لندن، السبت بالذات، وزمنها لا يتعدّى 15 دقيقة، بعد أن أهدر المخرج وقتا مطوّلا في إعداد الممثلين فمعظمهم يمثل لأول مرّة، بل بعضهم لا علاقة لهم بالسينما إطلاقا (تطلّب تدريبهم للتمثيل ستة أشهر في صيغة بروفات متكررة باستمرار)، واستغرق تصويره عاما بالكامل.
هكذا، فاختيار الأبيض والأسود كلونين أساسيين للفيلم، ليس من منطلق فلسفي أو جمالي، وإنما في الواقع مبرّرُه الخفيّ هو ميزانية العمل الضئيلة جدّا، وبذا تمّ تصريف لعبة الضوء عبر حيلة هذا الاختيار اللوني تفاديّا للاختلال والارتباك.
كلّ ما في كواليس إنجاز الفيلم مغامرة، بما في ذلك الكاميرا المحمولة باليد على مقاس 16 ملم. قبل أن يُعجب به المنتج الأميركي المستقل بيتر برودريك، فيدعمه عبر قناة الأفلام المستقلة، مُحوّلا نسخته إلى عرض مقاس 35 ملم، مع صقل الصوت كي يؤهّله للمشاركة وفق معايير المهرجانات وهذا ما تحقّق له إذ فاز بالعديد من الجوائز أهمّها جائزة النمر في مهرجان روتردام، وجائزة أفضل فيلم في مهرجان سان فرانسيسكو.
"تتبُّع" هو أوّل الأفلام الطويلة لنولان، بسنّ الثامنة والعشرين، إنّه محض مجازفة، إذ ميزانيّته لا تتعدّى 10 ألف دولار، وهي من تمويل المخرج نفسه
يستهلّ فيلم "تتبُّع" بمشهد الكاتب الشاب أو المبتدئ بالأحرى في مكتب التحقيق، يستنطقه عميد شرطة حول شبهات ملاحقاته لشخوص بعينهم، وتعقّبهم عن كثب في مُجريات أيامهم في أمكنة عملهم وساعات راحاتهم بالحانات حتى إقفالهم إلى مساكنهم.
في الحكاية المُعلنة، يبحث الكاتب الشابّ واسمه بيل، وفق زعمه عن مصادر واقعيّة ملهمة لشخصياته الروائيّة، مما جعله يلاحقُ هؤلاء الأشخاص اللافتين من واقع يوميّاته الاعتياديّة كيما يعرف ماذا يفعلون وأين يذهبون وهذا ما يحاول أن يقنع به المحقّق ليستبعد شبهة الشذوذ الجنسي. وإذ يدمن هذا اللعب سيضع قواعد لتهورّه، كأن لا يتعقّب الشخص مرتين، وأن لا يتعقب النساء في الأزقة المظلمة بآخر الليل، غير أنّ هذه القواعد ستتكسّر ما أن يترك عشوائية الانتقاء جانبا وينجرف مع شخصين لافتين.
بدْءا باقتفاء أثرِ الشقراء عشيقة الأصلع صاحب حانة ونادي قمار يتزعّم عصابة تحترف الاتّجار بكل شيء، الأفلام الإباحيّة والمخدرات والدعارة. هذا ما تخبره به الشقراء بعد أن يدنو من عالمها ويستضيفها في شقته المتواضعة، ويزورها في شقتها الفاخرة. تنقلب حياته رأسا بعدئذ حينما يتعقّب شخصا أنيقا يحمل حقيبة يُدعى "كوب"، هذا الذي يكشف ملاحقته له فيتجاسر عليه بأن يجالسه مُسائلا إيّاه لِمَ يصرُّ على تتبُّعِه، فما هو بشرطي ولا مخبر، ليعلم بأنه مجرّد كاتب مبتدئ، فيورطّه "كوب" في عمله الخطير: اقتحام الشقق بعد مغادرة أصحابها. بل ويصبح أستاذه المغوي في سرقة المنازل، وسرقاتُه الغريبة تحتكم إلى فنٍّ أو فلسفة، إذ يكتفي "كوب" بنهب أشياء رمزية لكن قيمتها بلا ثمن، مثل صناديق ذكريات أصحاب هذه الشقق، مُحتفظا بملابس نسائها الداخلية أو بقرط من أقراطهن. وإذ يقتحمان معا شقة الشقراء تتفاقم اشتباكات الحكايات متقاطعة المصائر كما سيتضّح في ما بعد، ذلك أنّ أستاذه في الجريمة "كوب" تربطه علاقة حميمة مع الشقراء نفسها، فوق ذلك هو متورّط في مقتل عجوز لحظة اقتحامه بمفرده لشقّة، وكي يستبعد شبهة تورّطه في موتها استدرج الكاتب الشاب "بيل" إلى شقتها كمقترح للسرقة حتى يسقط في فخ الشرطة وبذا تلبسه تهمة الثاني قطعيّا، بينما ينجو الأوّل بمكر. تُفاجِئنا حذاقةُ الاشتباكات المضاعفة بضلوع الشقراء في ابتزازِ الأصلع صاحب الحانة وليس العكس كما تدّعي، خاصّة أنّه قتل شابا في شقتها وهذا المأخذ الخطير هو الحبل الذي تطوّق به رقبة الأصلع الذي سيكلّف السارق "كوب" بالتخلّص منها، وإمعانا في توريط الكاتب الشاب سيستعمل مطرقته في تهشيم جمجمة الشقراء، وتغدو الجريمة مزدوجة. كيف لا والكاتب الشاب يحتفظ بصندوق ذكرياتها الحميمة! وهو ما تجده الشرطة في مداهمة لشقته، وعبثا يحاول إقناع المحقق بحقيقة المجرم الأصلي المدعو "كوب" الذي لا وجود له وفق بيانات الشرطة، إذ هو محض شخصية مختلقة ومفترضة.
هي متاهة سوداء انزلق إليها الكاتب المبتدئ بدافع الفضول، وما أن شرع في الاستمتاع بوقائعها المريبة معتقدا أنه يتصرّف بذكاء، حتى ألفى نفسه بغباءٍ صفيقٍ الضحية الكبرى لقدرها اللئيم.
ينتمي العمل إلى صنف الموجة الجديدة من الأفلام السوداء، ذات النزوع الغامض والمنحى البوليسي، لكن من منظور فلسفي يستند إلى بلاغة اللعب في هندسة الحكاية المركبة والتقطيع الزمني المتداخل والرهان على قلب الأشياء على أعقابها كلّما دنتْ من نهايتها على سبيل المفاجأة المدويّة، غير المتوقّعة بالمرّة.
باقتدارِ الكبار أبدعَ كريستوفر نولان تحفة سينمائيّة في أوّل أفلامه المستقلّة وهو بسن 28، قيدَ شروطٍ مالية وإمكانيات مادية ضئيلة جدّا، لكن الطموح الجمالي وأسلوب العمل الذكي جعل الرهان يُحقّق ما يفوق المُبتغى.
فيلم "تتبُّع" هو صندوق نولان السرّي، على مقاس الصناديق الحميمة التي كان يسرقها "كوب" في الشقق التي اقتحمها وكانت تستأثر بهوس اهتمامه، وفي صندوق نولان هذا تنام مجمل أسرار مطبخه السينمائي، يكفي إلقاء النظر عليها بإمعان والنّبش فيما تخفيه ظلالها كي تتضح خرائطه الآنية والمستقبلية منذ فيلم "تذكار" مرورا بـ"فارس الظلام" و"بين النجوم" و"عقيدة" إلى الفيلم ذائع الصخب "أوبنهايمر" وما سيليه.