يعود أوستر إلى جذور الهوّة الآخذة في الاتساع بين الذين يناضلون بشراسة من أجل تشديد السيطرة على حقّ حمل السلاح، وبين معارضيهم الذين تجمعوا تحت راية الرابطة الوطنية للبنادق (NRA)، ورابطة البنادق،هي اللوبي القوي المعارض لأي محاولة تخفيف، أو مساس بالتعديل الثاني في الدستور الأميركي، ونصه هو أن"الميليشيا المنظمة تنظيما جيدا، الجيش الشعبي، والضرورية لأمن دولة حرة، لا يجوز انتهاك حقها في الاحتفاظ بالأسلحة وحملها". وتفسّر هذه المادة على أنها تُثبت بما لا يدع مجالا للشك، حق الفرد أيضا في حمل السلاح.
إن التعديل الثاني في الدستور الذي يحدّد حق الفرد في حمل السلاح، كان محلّ تجاهل إلى حدّ كبير حتى عقود قليلة مضتْ، عندما بدأ يُنظر إليه على أنه نص أساسي حول ما يعنيه أن تكون أميركيا، وبسبب الاغتيالات والفوضى في ستينات القرن الماضي،كان الخوف طاغيا، وبسبب أيضا "الفهود السود"، وهي الحركة التي قامت في أميركا بعد مقتل مالكوم إكس، وهم ليسوا من المحافظين البيض، لكنهم هم مَنْ طرحوا في الأصل الحجة القائلة بأن امتلاك السلاح هو حقّ للدفاع عن النفس.
المثير للسخرية في رأي بول أوستر، أنه قضي نهائيا على "الفهود السود"، لكن أفكارهم ما زالت عالقة، وتبناها الجناح اليميني الأبيض، والآن يرى كثيرون أن التعديل الثاني، الخاص بحمل السلاح، ذو طابع ديني، وكأنه كأس مقدسة.
ألعاب الطفولة
يقدم بول أوستر في كتابه "أمة حمّام الدم"، حكاية عن ألعاب الطفولة بالبندقية في معسكر صيفي، وهناكبندقية أخرى ذات ماسورة مزدوجة في مزرعة صديقه، وعندما انضم للبحرية التجارية، التقى أوستر أشخاصا من الجنوب الأميركي، وتعجّب من علاقتهم المتهوّرة بالأسلحة النارية، واكتشف أيضا أنه على الرغم من عدم وجود أسلحة في منزل عائلته، فقد كانت هناك حادثة وفاة غامضة في تاريخ العائلة،البعيد نسبيا. وبما أن أوستر موهوب في عمل المخبر السريّ كما في "ثلاثية نيويورك"، فقد بدأ البحث.
كان أوستر يسأل عن سبب وفاة جدّه لأبيه، وكان والده يتهرّب من الإجابة،وأوستر يعود إلى السؤال على فترات زمنية متباعدة، بطرق غير مباشرة. كان والده يروي قصة مختلفة عن التي رواها سابقا، فمرّة سقط الجد من مبنى مرتفع أثناء عمله، ومرة ثانية قُتل في حادث صيد، ومرة ثالثة مات في الحرب العالمية الأولى.
لكن الحقيقة كانت في سنة 1919. كان والد بول أوستر عمره 6 سنوات،عندما أطلقتْ والدته، جدة أوستر، النار علىزوجها أمام شقيق والد أوستر، عمه، وكان أكبر قليلا من والد أوستر، وسبب إطلاق النار، أن جد أوستر هجر جدته، ليعيش مع امرأة أخرى. كان الحكم هو تبرئة الجدّة بدعوى القتل المفاجئ، أو الجنون المؤقت.
يُشير أوستر إلى أن القتل المفاجئ، أو الجنون المؤقت، يمكن النظر إليه على أنه مأساة الحياة الأميركية الحديثة، حيث يبدو تطبيع العنف من خلال تكراره، وكأنّ التكرار يسحب أعذار القتل المفاجئ، أو الجنون المؤقت، وأسبابهما، بصرف النظر عن أهمية الأعذار والأسباب، لتصبح النتيجة النهائية، العملية، والقابلة للتوريث عبر الأجيال، أن جدّة بول أوستر أطلقت النار على جده، وساهمتْ بحجر بناء في صرح العنف الأميركي.
تجارب شخصية
يعترف بول أوستر الذي ولد في بروكلين في 1947، أنه لم يكن محصّنا ضد جاذبية الأسلحة النارية، ويتذكر مشاهدة أفلام الويسترن، أو الغرب الأميركي، في الخمسينات، وكان واحدا من جحافل الأولاد الذين كانوا فخورين بامتلاك قبعة راعي بقر، ومسدس رخيص، بساقية دوارة، مدسوس في جراب، والجراب مُثبت بحزام يسقط على الخصر.
يحكي أوستر قصة ثانية يصف فيها رحلة قام بها كبحار تجاري عام 1970. تعرف في الرحلة على شخص اسمه لامار، الموشومة عقل أصابعه الثمانية من الخارج دون الإبهامين، بكلمتين، L.O.V.E، H.A.T.E، حب، كراهية، وهما الكلمتان المنقوشتان أيضا على عقل أصابع الممثل روبرت ميتشوم من الخارج، في دور الواعظ المعتوه القاتل، في فيلم The Night of the Hunter، "ليلة الصياد"،للممثل والمخرج تشارلز لوتون 1955.
تقول الأغنية الشهيرة في فيلم الويسترن High Noon، "منتصف الظهيرة" 1952، للمخرج فريد زينمان "يجب أن أواجه رجلا يكرهني، أو لأصبح جبانا رعديدا، أو فلأرقد في قبري يجللني الخزي". المواجهة تكون بالسلاح الناري بين البطل غاري كوبر، والأشرار الخارجين عن القانون.
مع مرور الزمن، تتجاوز عاطفة المواجهة بالسلاح،ممثل القانون، والخارج عن القانون، لتصبح المواجهة الكلاسيكية النبيلة في الفيلم، مواجهة حديثة، باردة ووحشية، بين أفراد المجتمع الأميركي، ثم تختفي المواجهة نفسها، ويبقى فعل القتل عاريا من أسبابه، كما في فيلم Elephant للمخرج غاس فان سانت، وفي هذا الفيلم يشتري طالبان مراهقان في مدرسة ثانوية، أسلحة نارية، عبر الإنترنت،وينفذان بها مذبحة قتل عشوائي لزملائهما في المدرسة.
مسارح القتل
تصاحب كتاب "أمة حمّام الدم"، صور فوتوغرافية بالأبيض والأسود، لأماكن إطلاق النار، التقطها سبنسر أوستراندر، وهي صور صامتة، هادئة، خالية من البشر، ومن السلاح، محلات بقالة، دور سينما، فنادق، حانات، مدارس، دور عبادة، محطات وقود، شهدتْ جميعها حوادث عنف وقتل، ورغم خلو الصور الفوتوغرافية من البشر والسلاح، إلا أن الرعب الذي أصاب تلك الأماكن يمكن تخيله.
يكتب أوستر "إن علاقة أمريكا بالسلاح ليستْ عقلانية على الإطلاق، ولذلك لا نفعل سوى القليل لإصلاح المشكلة". يزعم أوستر أن المشكلة ليستْ جديدة، وسيتعين على الأمة الأميركية أن تحفر عميقا، لكشف جذورها، "لكي نفهم كيف وصلنا إلى هنا، علينا أن نُخرج أنفسنا من الحاضر، ونعود إلى البداية، إلى الزمن الذي سبق اختراع الولايات المتحدة الأميركية".