حفلت الأعوام القليلة الماضية، وصولا إلى عامنا هذا، بالمجهول والمعقد وغير المستقر. نجد أنفسنا نعيش أحداثا غير متوقعة في كل حين. فلا يكاد ينتهي صراع، حتى يليه آخر، مع التغير المتسارع في الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وكأنه التواءٌ في مسار التاريخ، حتى بات من شبه المستحيل استشراف المستقبل، بل بات يصعب التنبؤ بالسيناريو الدولي المحتمل للشهر المقبل. لكن في مواجهة هذا القلق الناجم عن الخوف من المجهول، يظهر بالتوازي الإبداع الأكثر غزارة خلال السنوات القليلة الماضية، من خلال مواهب الفنانين والمؤلفين والباحثين في شتى الحقول، وهم يسكبون مخاوفهم وآمالهم في مواجهة عالم فوضوي.
أما على مستوى الأدب الروائي، وقد لا يتفق البعض معي في ذلك، فإن السنوات القليلة الماضية، خاصة السنوات الخمس الأخيرة، بدت، من شدّة غزارة ما ينتج فيها، مضيعة للخيال، وهذا ما يفسّر هروب ملايين القراء حول العالم إلى الكلاسيكيات، والروايات الأولى في تاريخ الرواية. فالعناوين الجديدة تشعرهم بالخوف أكثر من المجهول، وتشعرهم بالاضطراب من أفكار كانت منبوذة فأصبحت مقبولة، ومن أخبار تُقرأ يوميا، لتتحول إلى روايات سطحية، فيلاحظ القرّاء أنهم على أرض الأدب الجديدة وهي تتلوّن وتتغيّر أمام الأكثر مبيعا والأكثر فوزا في الجوائز. في حين لا تزال العناوين الكلاسيكية تُشعرهم بالثبات والطمأنينة، وكأنها الحقيقة الإنسانية التي يجب أن تبقى دون تغيير مع الرياح بأمزجتها الفانية.
بدت السنوات الخمس الأخيرة، من شدّة غزارة ما ينتج فيها، مضيعة للخيال، وهذا ما يفسّر هروب ملايين القراء حول العالم إلى الكلاسيكيات، والروايات الأولى في تاريخ الرواية
الأمر الآخر أن القراء في معظم أنحاء العالم، يواجهون أصواتا جديدة معظمها من النساء، ومن بلدان عانت طويلا من الصمت الاجتماعي، وهذه الأصوات تطرح شؤونها من خلال هياكل سردية بارعة وألعاب أدبية مثيرة للاهتمام، إنما بوجهة نظر وهدفٍ وحيدين، وهو انتشار الكتاب لبيع المزيد منه. أما المتمسكون بالأدب القديم فيرون أن تلك الأعمال المكتوبة منذ قرون لا تزال مثيرة للاهتمام، وعلى العالم أن يلقي عليها الضوء من جديد ويطرحها في الفنون المرئية والأفلام التشويقية كل حين، فتكرارها يعد تجديدا في حد ذاته.
نطرح هذه التساؤلات اليوم ونحن أمام موجة من الروايات التي لا حصر لها، وحيث يضيع النقد (وهو ما دفع بالناقد الدكتور عبدالله الغذامي إلى التحدّث أخيرا عن "موت النقد الأدبي") ويسود التكرار في الأفكار، والتشبع بما مضى، فهل أصبحت الرواية أسيرة هذا السباق؟ أم لا يزال الوقت مبكرا لإطلاق الأحكام؟ فثمة روائع تُطرح، وأعمال معاصرة تتربّع على قمة المشهد الأدبي في أوروبا، وتأخذ طريقها بإتقان إلى الجانب المظلم من الحالة الإنسانية اليوم، لكن الدائرة التي يعيشها الإنسان مكررة، والأجيال تعيد ما سلف، والحياة هي ذاتها، ولا يمكن للابتكارات أن تصبح بهذه الوفرة في فترة زمنية محدودة.
ففي القرون الماضية وعلى مستوى العالم شرقا وغربا، نجد الإنتاج الأدبي قليل، لكنّ هذا القليل تخلّد، فهل يعقل أن الكُتّاب في تلك الأزمنة لم يكتبوا الرديء، لتبقى هذه القلّة من الأسماء؟ بالطبع كتبوا، ولا بد من أن الورّاقين استفادوا ونسخوا وباعوا، فالمخطوطات الرديئة الكثيرة باقية، وليست كلها قابلة للقراءة، وهي مجرد أوراق ورقاع قديمة، تحتوي على نصوص ضعيفة... حتى تمت التصفية الكبرى، لتصبح الكتب التي بين أيدينا اليوم كنوزا من التراث ومراجع باقية، ويذهب الضعيف إلى الزوال لا محالة. وبدلا من سؤال اليوم المطروح بقوة في وسائل التواصل وفي دورات تعليم الكتابة حول كيف نكتب، ربما علينا استبداله بمتى يتوقف الكاتب عن الكتابة ومتى يكتب؟ وسيبقى سؤالا قائما في كل العصور، أقله للجادين لا الواهمين.