"شعرت بأني أحد جرحى المعارك القديمة، وهناك من يقوم بتطبيب جروحي وإزالة خيوط ودوائر الدماء المتجلطة، تلك المعارك التي يتقاتل فيها الجيشان وجها لوجه، وتلمع فيها نصال السيوف تراءى أمام عينيَّ شبح تلك السيدة التي أنزلت السيد المسيح من فوق الصليب، وتلك التي غسلت قدميه صورة المعركة وصورة المسيح كانتا تحتلان ذاكرتي لا أعرف، هل كانت الذاكرة ترشِّح في ذلك الوقت صورة رمزية لما سيحدث في المستقبل، وأصعد للسماء كما صعد المسيح؟ استيقظت بعد معركة مع الموت، أو مع الحياة، سيان كلاهما له نصل في غاية الرهافة وغاية الحدة!".
يتوقّف الشاعر علاء خالد ليتأمل رحلة الحياة والموت وما بينهما، ويحضر حسّه الشعري بقوّة في هذه التأملات التي يرى فيها الموت طريقة أخرى للطيران، ولهذا يحضر الموتى في الأحلام بحالة شفافة مسالمة، وفي حالة الاقتراب من الموت تلك يشعر بقدر من مضاعفة الحواس، والسكون، فيسمع كل صوت ويشعر بأنه أكثر اتصالا بالسماء. يرصد كذلك كل ما يوحي بالموت داخل المستشفيات، بدءا بغرف العناية المركزة مرورا بطريقة بناء المستشفى، وتفاصيل الأسرة والملاءات والأطعمة، وعلاقة المرضى بأجسادهم التي يرى أنها تتحرّر تدريجيا، وكأنهم على استعداد دائم لتلك اللحظة التي تفارق فيها الروح الجسد.
يتأمل أيضا علاقته بهذا الزمن الذي مرّ فجأة، ويتحدّث عن شعوره بمرور الزمن وأنه في سن الخمسين يشعر أن حضور الموت يكون في أخف صوره وشاعريته، ويعود بالذاكرة إلى سنوات عمره الأولى، في الثلاثين التي يعتبرها "قيامة صغرى داخل عمر الإنسان" حيث يبدأ حالة من التضحية والإقدام على المخاطر والتمرّد والرغبة في السفر، وكل ما من شأنه أن يكسر حالة الاستسلام لمرور الزمن.
ليس الموت وعلاقته بالحياة ومرور الزمن فحسب ما يتأمله علاء خالد في كتابه، بل يتوقف ليراقب علاقته بنفسه، وبمن حوله، علاقته بالطبيب الذي أخطأ في العملية الأولى واعتذر له عن هذا الخطأ، وكيف يشعر بالذنب ثم يتخفّف من ذلك الشعور بمجرد إجراء الجراحة الثانية، ثم يلاحظ أن هذا الطبيب شخص متردّد يخاف من الفشل لا يمكن الاعتماد عليه في ما يتعلق بحياة الناس، وهو لا يريد أن يقاضيه، ولكن يريد أن يشعره بفداحة ما ارتكب من خطأ.
يحكي علاء خالد بحميمية عن رفاق رحلة العلاج تلك وطقوسهم اليومية، إبراهيم الممرض وسماسم صاحبة الصوت الجميل، ومن المرضى "عم وليم" الذي كان رفيقا لغرفة العناية المركزة لأربعة أيام فقط، ويفسح المجال لنفسه لكي يستكشف زوايا جديدة من الحياة لم يكن ممكنا أن يراها لولا وجوده في المستشفى ولو من خلال سرير متحرّك، وفي النهاية يتأمل تلك "الحياة الجديدة" التي منحت له ويعقد عليها الآمال أن تكون مختلفة عن حياة الخارج من كهف أو عزلة، وأن يكون فيها قدر أكبر من الحرية.
عبده وازن: قلب مفتوح
يحكي الشاعر والناقد اللبناني عبده وازن تجربة إجرائه عملية "قلب مفتوح"في كتاب بهذا العنوان، فيتناول الصدمة التي شعر بها منذ اللحظات الأولى لإجراء تلك العملية، وكيف كان شعوره بالحرج منذ تعرّى أمام الممرّض، حتى حلق شعر جسمه، ثم دخل في غيبوبة طويلة، فتح عينيه بعدها على آثار العملية والجراح والآلام، وتبدأ رحلة تأمل العالم من حوله، يقول:
"صور تطفو على وجه ماء الذاكرة، من أين تأتي هذه الصور كلها دفعة واحدة؟ صورة المسيح لا تغادر عينيّ بوجهه النازف، والإكليل الذي ضُفر به رأسه، بجسده المجروح وخاصرته التي طعنها الرمح، تعبر عينيّ صورة يوكيو ميشيما يؤدي شخصية القديس سباستيان بجسده المكلوم والرمح الذي يخترقه. أين شاهدت هذه الصورة التي لم أنسها؟ في أي كتاب؟ لا أذكر. تعبر عينيّ أيضا صورة الحلاج معلّقا على الخشبة يلقي على جلاديه نظرات فيها من الألم ما فيها من الحبور، غافرا لهم، صارخا: اقتلوني!".
يفكر في الموت وقد ألقى عليه بظلاله داخل غرف العمليات، تتزاحم في رأسه ذكريات الطفولة والصبا فيتذكر المناولة الأولى أيام الطفولة واحتفالهم بها في المدرسة، يربط بين قصائد رامبو وريلكه عن المناولة الأولى وبين أيام الماضي الجميلة تلك، يبدأ الجسم في استرداد عافيته، فيتذكر عاداته الجميلة، يسمع أغاني فيروز ويبدأ في القراءة، ولكن الهواجس لا تزال تسيطر عليه، حتى يبدأ في الكتابة، يكتب وكأنه يكتب عن شخص آخر، يحتفي بالعودة للحياة، يراقب الممرضات في المستشفى بين الحلم واليقظة، تطارده روائح المستشفى والأدوية، يهرب من كل ذلك باسترجاع سنوات الطفولة من جديد.
هكذا كانت غرفة العمليات فرصة لاستعادة الذكريات عند عبده وازن ومراجعة الماضي ومراقبة علاقته بوالده الذي فقده مبكرا، وبوالدته التي تولت مسؤولية تربيته وأخوته وكانت نموذج الأم القوية الصابرة، كذلك يتذكر بدايات علاقته بالقراءة من الإنجيل وكيف أثرت عليه، ثم توجيه المعلمين له إلى قراءة كليلة ودمنة، ومؤلفات المنفلوطي وطه حسين والمازني وتوفيق الحكيم وغيرهم.