غولدا مائير... "الرجل" في حكومة بن غوريون

امرأة جمعت "المال الذي جعل الدولة ممكنة" ووضعت إعلان إنشاء إسرائيل

بيتر تشوت
بيتر تشوت

غولدا مائير... "الرجل" في حكومة بن غوريون

كان يفترض، لو أن الوقت غير الوقت، أن تحتفل إسرائيل بالذكرى الرابعة والخمسين لانتخاب غولدا مائير كأول وآخر امرأة تتسنّم منصب رئاسة الوزراء في بلدها، فقد كانت تلك المناسبة نقطة تحول بالنسبة لحقوق المرأة في إسرائيل.

مائير كانت أيضا أول رئيسة لحزب سياسي في إسرائيل ألا وهو حزب ماباي (الذي صار يدعى حزب العمل وترأسه الآن امرأة أخرى تدعى ميراف ميخائيلي). لكن مائير كانت كابوسا للعرب، الذين كانوا يكرهونها ويذكرون أنها الشخص الذي أمر بسلسلة من الاغتيالات استهدفت وقضت على قادة فلسطينيين بارزين في أوروبا ولبنان أوائل السبعينات. وكانت مائير تعرف في بلدها باسم "المرأة الحديدية" في السياسة الإسرائيلية، وأصبحت رئيسة الوزراء منذ عام 1969 حتى اضطرت للتنحي في أعقاب حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973.

من أوكرانيا إلى الولايات المتحدة

ولدت غولدا مائير أو غولدا مابوفيتش لعائلة من اليهود الأوكرانيين في كييف يوم 8 مايو/أيار 1898. وهاجرت مائير مع والدها الذي كان يعمل نجارا إلى الولايات المتحدة عام 1906، واستقرا في مدينة ميلووكي بولاية ويسكنسن وتلقت تعليمها في مدرسةٍ محلية (تحمل الآن اسمها)، وعملت بدوام جزئي في متجر كبير، ثم في مكتبة عامة، في الوقت الذي كانت تدرس في مدارس ابتدائية يهودية أحيانا. وأصبحت ناشطة في الصهيونية السياسية والعمالية خلال مرحلة المراهقة، وتلقت دراستها في كلية المعلمين (تعرف الآن باسم جامعة ويسكنسن- ميلووكي).

فلسطين في فترة الانتداب 1921

في هذه الفترة التقت غولدا بموريس مائيرسون، الذي سيصبح زوجها، وهو رسام واشتراكي. عقد الاثنان قرانهما عام 1917، وهو العام نفسه الذي صدر فيه وعد بلفور، ثمّ انتقلا إلى فلسطين في فترة الانتداب عام 1921 بناء على طلبها كي يكونا قريبين من طموح حياتها في إقامة دولة إسرائيل. استقرا في البداية في كيبوتس مرج ابن عامر (الآن وادي يزرعيل بحسب التسمية الإسرائيلية) قبل انتقالهما إلى تل أبيب ثم إلى القدس.

انتقلت مائير وزوجها إلى فلسطين في فترة الانتداب عام 1921 بناء على طلبها كي يكونا قريبين من طموح حياتها في إقامة دولة إسرائيل. استقرا في البداية في كيبوتس مرج ابن عامر

وفي عام 1928، انتُخبت أمينة عامة لمجلس المرأة العاملة، وهي منظمة يهودية، فانتدبتها إلى الولايات المتحدة كمبعوثة لها لمدة عامين. وانضمت إلى اللجنة التنفيذية للهستدروت عام 1934، والذي كان قبل 1948 نقابةَ عمال للجالية اليهودية (وهو الآن المنظمة العامة للعمال في إسرائيل)، وأصبحت رئيسة القسم السياسي في المنظمة. وبحلول عام 1946، أصبحت أيضا القائمة بأعمال رئيس القسم السياسي في الوكالة اليهودية، وشخصية بارزة في المنظمة الصهيونية العالمية. وعندما ذهب رئيس الوكالة اليهودية موشيه شاريت إلى الولايات المتحدة بهدف الضغط على أعضاء الكونغرس الأميركي من أجل خطة تقسيم فلسطين عام 1947، تركَ مائير في فلسطين وهي تسيطر سيطرة كاملة على الإدارة السياسية للوكالة اليهودية.

حرب فلسطين 1948

قبل أقل من أسبوعين من إصدار الأمم المتحدة خطة التقسيم، التقت مائير سرا بالملك عبدالله، مَلِكِ الأردن، الذي حاول التحدث معها بخصوص تأخير الإعلان عن إقامة دولة إسرائيل. وقال: "لا تتعجلوا الأمر". وحذرها من المشاعر المتأججة في العالم العربي. فنظرت إلى الوراء وأجابت: "إننا ننتظر منذ ألفي عام! هل تسمي هذا عجلة؟". ثم اقترحت على الملك بعد ذلك أن تقبل الوكالة اليهودية سيطرة الأردن على الضفة الغربية مقابل موافقة الملك على البقاء خارج المناطق المخصصة لإسرائيل في خطة التقسيم.

AFP
مائير خلال مؤتمر صحافي في 15 أكتوبر/ تشرين الاول 1973


وخلال الحرب نفسها، عادت مائير إلى الولايات المتحدة ونشطت في جمع الأموال لكلٍ من الدولة الجديدة وجيشها، وذلك بفضل مهاراتها الخطابية ولغتها الإنكليزية الطلقة، إذ كانت الوكالة اليهودية تهدف إلى الحصول على 7-8 ملايين دولار من اليهود الأميركيين. لكن مائير جمعت أكثر من 30 مليون دولار. فكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي المؤسس ديفيد بن غوريون لاحقا أنها كانت المرأة "التي حصلت على المال الذي جعل الدولة ممكنة". 
 

كان بن غوريون قد اقترح تعيين مائير نائبة لرئيس الوزراء، وهو الأمر الذي رفضته، ووجدت أن مسؤولياته كانت في غاية الغموض وأنه تشريف لا يناسب شهيتها السياسية. وأشرفت كوزيرة للعمل على بناء الطرق والمساكن، ودعمت بقوة الهجرة اليهودية التي لا تقيدها قيود إلى إسرائيل من جميع أنحاء العالم. 

وفي مايو/أيار 1948 كانت مائير واحدة من أربعة وعشرين شخصا وقعوا على إعلان استقلال إسرائيل. ووصفت لحظة التوقيع قائلة: "بعد أن وقّعْتُ، بكيت". وقارنتْ نفسها بالآباء المؤسسين للولايات المتحدة. ومن ثمّ أصبحت الدائرةُ السياسية في الوكالة اليهوديةِ في الدولة الجديدةِ وزارةَ الخارجية الإسرائيلية وكان زعيمها موشيه شاريت، وهو أول وزير خارجية لإسرائيل. غادرت مائير إلى الولايات المتحدة مرة أخرى لتجمع 50 مليون دولار أخرى منتصف عام 1948. لكنها سافرت هذه المرة بجواز سفر إسرائيلي حديث.

سفيرة في موسكو

عينها شاريت كأول سفيرة لإسرائيل لدى الاتحاد السوفياتي (وزيرة مفوضة) في 2 سبتمبر/أيلول 1948. لكن الوظيفة لم تلق هوى في نفسها واعتبرتها شكلا من أشكال النفي. لم تكن مائير تتحدث اللغة الروسية، وكانت تمقت البروتوكول الدبلوماسي، ولم تكن تستمتع باحتساء الشراب وتناول الطعام في المجتمع الدبلوماسي في موسكو. كانت تتوق للعودة إلى تل أبيب، وتحدثت مع شاريت الذي استدعاها يوم 10 مارس/آذار 1949.

"الرجل الوحيد" في الحكومة

بعد عام، فازت مائير بمقعد في الكنيست وعُينت وزيرة للعمل في عهد ديفيد بن غوريون. وكانت مائير وبن غوريون صديقين حميمين وكان يصفها في كثير من الأحيان بأنها "الرجل الوحيد" في حكومته، وهو تصريح ربما يسيء إلى نساء أخريات ولكن غولدا مائير كانت تجده ممتعا. 
كان بن غوريون قد اقترح عليها تعيينها كنائبة لرئيس الوزراء، وهو الأمر الذي رفضته، ووجدت أن مسؤولياته كانت في غاية الغموض وكان تشريفا لا يناسب شهيتها السياسية. وأشرفت كوزيرة للعمل على بناء الطرق والمساكن، ودعمت بقوة الهجرة اليهودية التي لا تقيدها قيود إلى إسرائيل من جميع أنحاء العالم. 
 

كانت مائير وبن غوريون صديقين حميمين وكان يصفها في كثير من الأحيان بأنها "الرجل الوحيد" في حكومته، وهو تصريح ربما يسيء إلى نساء أخريات ولكن غولدا مائير كانت تجده ممتعا. 

في عام 1955، ترشحت كي تشغل منصب رئيسة بلدية تل أبيب لكنها خسرت بفارق صوتين بسبب المتدينين اليهود الذين كانوا يواجهون صعوبة في تقبل فكرة أن تصبح امرأة رئيسة للبلدية. عينها بن غوريون وزيرة خارجيته في أكتوبر/تشرين الأول من ذلك العام، لتحل محل رئيسها السابق موشيه شاريت. وهذا هو الوقت الذي غيرت فيه اسمها من "مائيرسون" (عائلة زوجها) إلى "مائير"، تماشيا مع التقليد الذي اتبعه القادة اليهود الآخرون الذين اتخذوا ألقابا عبرية. وشغلت منصب وزيرة خارجية على مدى السنوات العشر التالية، حيث أشرفت على حرب السويس مع مصر عام 1956، قبل أن تتنحى بعد تشخيص إصابتها بسرطان الغدد الليمفاوية في يناير/كانون الثاني 1966.

رئيسة للوزراء

أخذت حياتها المهنية منعطفا هادئا خلال السنوات الثلاث التالية، حيث استقرت ضمن حياة أسرية، واستعدت لتصبح جدة. ثم جاءت الوفاة المفاجئة لرئيس الوزراء ليفي إشكول في فبراير/شباط 1969. وأجريت انتخابات حزبية لتحل محله، ورشحها حزبها حزب الماباي (حزب العمال الذي سيندمج بعد ذلك بقليل مع حزبين آخرين لتشكيل حزب العمل) لتخلف إشكول، ومن ثمّ انتُخبت رئيسة للوزراء في 7 مارس/آذار 1969. 
فازت مائير بالانتخابات، وفي سن الحادية والسبعين، أصبحت أول امرأة تتولى رئاسة الوزراء في إسرائيل، وحافظت على حكومة إشكول، بينما كان الناس يقارنونها بنظيرتها الهندية القوية، أنديرا غاندي.

Moriah Films
صورة وزعتها الحكومة الإسرائيلية تظهر مائير وهي تلتقي مع قوات الجيش الإسرائيلي في مرتفعات الجولان خلال "حرب أكتوبر"

دارت مائير العالم للترويج لبلدها، وتصدرت عناوين الصحف بسبب ملابسها البسيطة، وتخليها التام عن الشكليات، وسفرها في الدرجة الاقتصادية، وتسليتها الضيوف في مطبخ منزلها في تل أبيب، وهي ترتدي مئزرا، والخوض في مونولوجات عاطفية حول رؤيتها الخاصة لمستقبل إسرائيل. لقد كانت تستقبل الضيوف في القدس في فيلا مكونة من طابقين أقدمت الحكومة الإسرائيلية على مصادرتها من الشخصية الفلسطينية البارزة حنا بشارات.

"ليس ثمة شيء اسمه الفلسطينيون"

بحلول ذلك الوقت، وفي يونيو/حزيران 1969، أدلت مائير ببيانها التاريخي: "ليس ثمة شيء اسمه الفلسطينيون". وخاضت حرب استنزاف ضد الرئيس المصري جمال عبدالناصر، ثم تعهدت بإسقاط خليفته أنور السادات. كما أذنت بسلسلة من الاغتيالات التي استهدف بها الموساد كبار أعضاء منظمة التحرير الفلسطينية، ردا على هجوم كانت منظمة "أيلول الأسود" عام 1972 قد شنته، وأسفر عن مقتل أحد عشر رياضيا إسرائيليا في دورة الألعاب الأولمبية الصيفية في ميونيخ. وكانت منظمة "أيلول الأسود" تخطط بالفعل لاغتيال غولدا مائير خلال رحلتها إلى مدينة نيويورك يوم 4 مارس/آذار 1973. ولكنها وعدت بأن تكون سباقة في الضرب، وأنشأت اللجنة "X"، بهدف القضاء على أعدائها، في وقت كانت تتولى فيه زمام القيادة. 

في يونيو/حزيران 1969، أدلت مائير ببيانها التاريخي: "ليس ثمة شيء اسمه الفلسطينيون". وخاضت حرب استنزاف ضد الرئيس المصري جمال عبدالناصر، ثم تعهدت بإسقاط خليفته أنور السادات. كما أذنت بسلسلة من الاغتيالات التي استهدف بها الموساد كبار أعضاء منظمة التحرير الفلسطينية.

وقع انتقامها أول الأمر في عملية أطلق عليها اسم "غضب الله" واستهدفت ممثل منظمة التحرير الفلسطينية في روما، وائل زعيتر، الذي قُتل يوم 16 أكتوبر/تشرين الأول 1972. وبعد أقل من شهرين، أمرت مائير بالقضاء على محمود الهمشري، مبعوث ياسر عرفات إلى فرنسا، والذي لقي مصرعه بقنبلة زرعت تحت مكتبه بمنزله الكائن في باريس يناير/كانون الثاني 1973. واستهدفت حسين البشير، ممثل فتح في قبرص، الذي فُجّر في غرفته بالفندق في نيقوسيا. على أن أشهر عمليات غولدا مائير كانت تلك التي نُفذت في لبنان في أبريل/نيسان 1973، حين هاجمت فرق الكوماندوز الإسرائيلية منازل كبار القادة الفلسطينيين محمد يوسف النجار، وكمال عدوان، وكمال ناصر. وقد قُتلوا جميعا بأوامر صادرة من مائير.

حرب أكتوبر 1973

شكّلت حرب أكتوبر/تشرين الأول التي شنّها السادات في مصر، والرئيس السوري الجديد حافظ الأسد، عام 1973، نقطة الانهيار في حياتها المهنية. فعلى الرغم من التقارير التي كان مفادها أن السوريين كانوا يحشدون القوات على جانبهم من الحدود، أخبرها مستشاروها أن لا تقلق، معتقدين أن الأمر كان خدعة. جرى الاعتقاد بأن السادات يحشد القوات على جانبه من الحدود، ويضع إسرائيل في حالة تأهب قصوى، وأنه كان سيسحب تلك القوات بعد ذلك. ربما اعتقدت مائير أن ذلك كان أحد تكتيكاته. لم تحشد إسرائيل جيشها، معتقدة أنه بعد هزيمة العرب الساحقة عام 1967، فإنهم لن يجرؤوا على مهاجمة إسرائيل مرة أخرى. كان وزير الدفاع موشيه ديان يقول لها إن العرب لن يشنوا حربا، وظلّ مستمرا في التمسك بهذا القول حتى قبل ست ساعاتٍ من اندلاع الأعمال العسكرية. 
 

في 21 نوفمبر/تشرين الثاني 1977، دعيت مائير للتحدث أمام الكنيست بصفتها رئيسة لحزب العمل بمناسبة زيارة الرئيس السادات لإسرائيل. كان هذا هو الرجل نفسه الذي كان مسؤولا جزئيا عن زوالها السياسي، ومع ذلك رحبت به باعتباره "صانع سلامٍ شجاع". 

في السادس من أكتوبر/تشرين الأول، بدأت مائير أخيرا بتعبئة قواتها، لكنها رفضت القيام بأي ضربة استباقية ضد سوريا و/أو مصر، لعدم رغبتها في أن يُنظر إليها على أنها أشعلت فتيل الحرب، كي لا تزعج إدارة نيكسون. فاجأت الساعات الأولى من الحرب مائير وطاقمها، وتكبد الجيش الإسرائيلي خسائر فادحة.

AFP
مائير تزور جنديا إسرائيليا جريحا في مستشفى بتل أبيب خلال الحرب


استقالت مائير من رئاسة الوزراء في 11 أبريل/نيسان 1974، ومن الكنيست في 7 يونيو/حزيران 1974، محمّلة نفسها مسؤولية ما حدث. ترأست مجلس الوزراء المؤقت حتى أوائل ذلك الصيف ثم تقاعدت من السياسة كي تكتب مذكراتها تحت عنوان "حياتي"، وقد نشرتها في كتاب صار من أكثر الكتب مبيعا بحسب "نيويورك تايمز" فور نشره عام 1975. وفي 21 نوفمبر/تشرين الثاني 1977، دعيت للتحدث أمام الكنيست بصفتها رئيسة لحزب العمل بمناسبة زيارة الرئيس السادات لإسرائيل. كان هذا هو الرجل نفسه الذي كان مسؤولا جزئيا عن زوالها السياسي، ومع ذلك رحبت به باعتباره "صانع سلامٍ شجاع". 
وبعد اثني عشر شهرا، توفيت بمرض السرطان في القدس، يوم 8 ديسمبر/كانون الثاني 1978، عن عمر يناهز 80 عاما. 
 

font change

مقالات ذات صلة