يستخدم اللبنانيون كلمة "عصفورية" للدلالة على الجنون، ويُطلقونها على الأماكن، التي تُعنى بالأمراض النفسية أو العقلية أو العصبية، بغض النظر عن الاسم الرسمي للمكان، ويستعينون بها في أحاديثهم، للتشكيك في القدرات العقلية لأحدهم، فيقولون: "فلان يعيش في العصفورية"، أو "يحتاج إلى عصفورية".
لم تُستخدم كلمة عصفورية كمرادف للجنون، من دون سند، فالعصفورية هي بقعة جغرافية موجودة بالفعل، على خارطة لبنان، وهي عبارة عن غابة من الصنوبر، تقوم على رأس تلة، في جوار بلدة الحازمية بمحافظة جبل لبنان، زارها مبشر سويسري الجنسية، يوما ما، وفي نيته إقامة مصحة للأمراض النفسية في الشرق، فأعجبته على الفور، وبعد مفاوضات مع حكام ذلك الزمان، كان له ما أراد.
وبما أن اللغة تُجيز انتقال الكلمة من معنى ضيق إلى آخر أوسع، فقد وسّع اللبنانيون، مع الأيام، مدلول كلمة عصفورية، وصاروا يُطلقونها على كل ما له علاقة بالجنون.
وفي زمن الانهيار، الذي يعيشه لبنان، توسع مدلول كلمة عصفورية، ليشمل أماكن ونطاقات، لم تكن مطروقة من قبل، إن كان على صعيد الأحداث، أو على صعيد المواقف. بمعنى أبسط، استخدم اللبنانيون كلمة عصفورية، مؤخرا، مئات المرات، على وسائل التواصل الاجتماعي، لوصف اعتراضهم على شروط الحفل، الذي أقامة عمرو دياب في بيروت، واستُخدمت بالمقدار نفسه، تعليقا على موقف وزير الثقافة محمد المرتضى من فيلم "باربي".
على أن مستخدمي كلمة عصفورية، ينقسمون إلى فريقين متضادين، جريا على عادة اللبنانيين؛ فالعصفورية مثلا، عند المتعصب دينيا أو حزبيا، هي عكسها عند المعتدل أو المتحرر، وعصفورية المسلم، غير عصفورية المسيحي، وهكذا دواليك.
المحتجون على قرار حظر فيلم "باربي"، استخدموا كلمة عصفورية اعتراضا، ثم بعد إزالة الحظر من قبل الأمن العام، استخدم أنصار الوزير الكلمة إياها احتجاجا، كذلك المبتهجون بحفل دياب والمعترضون عليه.
في أحداث عين الحلوة، يصف قسم من اللبنانيين، في ألطف الأحوال، استمرار التقاتل بين المنظمات الفلسطينية، بالعصفورية، أما في أعنفها، فلا تكاد تُشفي كلمة عصفورية، قلوب الناقمين على السلاح داخل المخيمات، واللجوء الفلسطيني، واحتمالات التوطين.
في زمن الانهيار، الذي يعيشه لبنان، توسع مدلول كلمة عصفورية، ليشمل أماكن ونطاقات، لم تكن مطروقة من قبل، إن كان على صعيد الأحداث، أو على صعيد المواقف
في مدلولاتها المتعددة، تبرز العصفورية بوضوح، في القضاء اللبناني، والكلام عن الجريمة الغامضة، التي هزت بلدة عين إبل الجنوبية، والتي راح ضحيتها المسؤول السابق في حزب "القوات اللبنانية" إلياس الحصروني، فبعد أن كشفت كاميرات منصوبة على شرفة أحد المنازل، تعرض المغدور لعملية خطف متقنة، وليس حادث سير كما أُشيع، أُغلقت القضية فجأة قبل استكمال التحقيق.
وتتجلى العصفورية أيضا، في التعتيم المريب، حيال نتائج التحقيقات في قضية "شاحنة الكحالة"، التابعة لمواصلات "حزب الله"، التي انقلبت عند منعطف بلدة الكحالة الشهير، وقيل إنها تحمل أسلحة وذخائر، هذا عدا أن وجود ميليشيا تنقل سلاحا في وضح النهار، هي فكرة في غاية الجنون، ولا تحدث إلا في العصفورية.
وإذا طرقنا أبوابا أبعد قليلا، مما سلف، السياسة مثلا، نجد العصفورية متجسدة في أكثر صورها قتامة، في تصريحين متتاليين، سمعهما اللبنانيون- وربما لم يسمعوهما- لمسؤولين سياسيين في "حزب الله"، يتناقضان بل ينسفان كل الجهود العربية والدولية المبذولة من أجل إنقاذ لبنان، فمن جهة، أكد رئيس المجلس السياسي في "حزب الله"، إبراهيم أمين السيد، أن "حزب الله لا يزال على موقفه بدعم المرشح سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية"، ومن جهة أخرى، أعلن زميله مسؤول "وحدة التنسيق والارتباط" وفيق صفا، في حديث لوكالة "تسنيم" الإيرانية، حول مسألة ترسيم الحدود البرية، أنه "لا يوجد ترسيم... هناك 13 نقطة يوجد خلاف حولها ونحن نسميها نقاط إظهار حدود وليس ترسيم حدود... لا يوجد ترسيم وهذا أكيد".
وفي المقابل، يتجلى في السكوت الرسمي، عن هذين التصريحين، اللذين ينتهكان السيادة اللبنانية، إن لم نقل يهزآن بها، معنى تراجيديا يُضاف إلى معاني العصفورية المتعددة.
والعصفورية تنتشر على كل المستويات الحياتية في لبنان، في الفن والسياسة والأمن والقضاء، كما في التربية والتعليم والثقافة والمال والاقتصاد والاجتماع، فيكاد لا يمر يوم من دون حفلة جنون، تشهدها البلاد ومعها العباد، لذلك كلما سجل الدولار الأميركي ارتفاعا والليرة اللبنانية هبوطا، أو حلّقت أسعار الأدوية والمواد الغذائية والوقود، أو تراجعت جهوزية المدرسة الرسمية والجامعة اللبنانية، عن استقبال جيوش الطلاب المهاجرين من التعليم الخاص، أو أغلق القضاء التحقيق في قضية قتل أو اغتيال أو حادث أمني، يهب اللبنانيون إلى كلمة عصفورية، ينتزعون المفردة من سياق سابق، ليضعوها في سياق لاحق، في سباق محموم مع الوقت والعقل.
في أحداث عين الحلوة، يصف قسم من اللبنانيين، في ألطف الأحوال، استمرار التقاتل بين المنظمات الفلسطينية، بالعصفورية، أما في أعنفها، فلا تكاد تُشفي كلمة عصفورية قلوب الناقمين على السلاح داخل المخيمات، واللجوء الفلسطيني، واحتمالات التوطين
مر على مستشفى العصفورية عصر ذهبي، كالذي مر على لبنان، فكان المستشفى النفسي الوحيد في الشرق الأوسط، الذي يحظى بثقة عالمية، إلى أن أغلق أبوابه عام 1982، وكان لبنان منارة الشرق، في التعليم والطب والصحافة والثقافة والسياحة والاقتصاد الحر، إلى أن تقاتل أهله في أبريل/نيسان عام 1975، فأخذ بالتحول تدريجيا إلى عصفورية مفتوحة.
أنهي الكتابة عن هذا الجنون، وأنا أستعد للعودة إلى العصفورية، ملغية إقامتي في دبي، التي أمضيت فيها ما يزيد على الثلاث سنوات، كنت خلالها أزور بيروت أياما معدودة، ثم أعود مسرعة، لتعويض ما فاتني من نِعَم أمنها وأمانها، وفي الخلفية يعلو صوت الصبوحة، وهي تغني كأنها تسخر من قراري: "ع العصفورية وصلني بإيده ع العصفورية".