منذ اللحظة الأولى التي أطلق فيها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين "عمليته العسكرية الخاصة" ضد أوكرانيا في العام الماضي، كانت إحدى حساباته الرئيسة تراهن على وقوع انقسامات داخل التحالف الغربي ستُقوض في نهاية الأمر الجهود الرامية إلى تقديم الدعم الفعال لكييف.
ومن ثم فإن هناك درجة من الإجماع لا تزال قائمة حتى الآن بين الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي على ضرورة دعم أوكرانيا عسكريا في الصراع، وهو ما شكل مفاجأة كبيرة للكرملين، كانت عاملا رئيسا وراء نجاح الجيش الأوكراني في مقاومة خصمه الروسي.
ولكن بينما لعب الدعم الغربي لأوكرانيا دورا رئيسا خلال الأشهر الثمانية عشر الأولى من الصراع، وهو الأمر الذي مكن الأوكرانيين من تحقيق عدد من المكاسب المهمة في ساحة المعركة، ظل بوتين يراهن على أن الغرب سيفقد في نهاية المطاف الاهتمام بالصراع إذا ما استمر لزمن أطول، وسيتضاءل بالتالي هذا الدعم لكييف.
وعلى أية حال، هذا ما حدث بالفعل في أفغانستان من حيث النتيجة، حيث استسلمت الولايات المتحدة وحلفاؤها في نهاية المطاف، وذلك على الرغم من إنفاق مئات المليارات من الدولارات في محاولة لتحقيق الاستقرار في البلاد وهزيمة طالبان. وكانت النتيجة أن حركة الطالبان اليوم هي سيدة البلاد بلا منازع.
وفي الواقع، يمكن القول إن الانسحاب الفوضوي من كابول الذي قامت به إدارة بايدن عام 2021، حيث شهد مطار كابول مشاهد لم تألفها أميركا منذ انسحابها المهين من فيتنام قبل أربعة عقود، قد أقنع بوتين في محصلة الأمر بأنه قادر على تحقيق سعيه طويل الأمد المتمثل في الاستيلاء على مساحات واسعة من أوكرانيا المجاورة.
بينما لعب الدعم الغربي لأوكرانيا دورا رئيسا خلال الأشهر الثمانية عشر الأولى من الصراع، وهو الأمر الذي مكن الأوكرانيين من تحقيق عدد من المكاسب المهمة في ساحة المعركة، ظل بوتين يراهن على أن الغرب سيفقد في نهاية المطاف الاهتمام بالصراع إذا ما استمر لزمن أطول، وسيتضاءل بالتالي هذا الدعم لكييف
وعلى الرغم من أن هجومه العسكري على أوكرانيا استغرق وقتا أطول كثيرا مما كان متوقعا، وأنه تسبب في تكبد القوات الروسية سلسلة من الخسائر المدمرة، سواء من حيث الرجال أو المعدات، فإن لدى بوتين سببا وجيها حمله على الاعتقاد بأن توقعاته بأن الغرب سيفقد الاهتمام بالصراع سوف تدعمها حقائق الأمر الواقع في نهاية المطاف، وهو الأمر الذي سيمكنه من تحقيق أهدافه في أوكرانيا.
ولعل أوضح إشارة ظهرت حتى الوقت الحالي على أن الدعم الغربي لأوكرانيا ليس دعما غير محدود، قد جاءت على شكل تحرك مثير للجدل قام به الكونغرس الأميركي لتجميد المساعدات العسكرية لأوكرانيا كجزء من الخلاف السياسي الذي نشب حول مفاوضات الموازنة. وكجزء من اتفاق لضمان استمرار التمويل الحكومي لمدة 45 يوما أخرى على الأقل، منع الكونغرس أي مساعدات عسكرية جديدة لأوكرانيا، وهو الأمر الذي يثير تساؤلات جدية حول مستقبل المساعدات الأميركية لكييف.
فبعد أسبوع واحد فقط من الزيارة التي قام بها الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي إلى واشنطن للمطالبة بمزيد من الأموال، جاء الحل الوسط الذي تم التوصل إليه في الكونغرس لإسقاط التمويل الجديد لأوكرانيا وسط معارضة أبداها الجمهوريون المتشددون (ووصلت الى اقالة رئيس مجلس النواب كيفن مكارثي لاسباب تتعلق بالتوافق مع البيت الابيض على تجنب وقف التمويل للحكومة).
أوضح إشارة ظهرت حتى الوقت الحالي على أن الدعم الغربي لأوكرانيا ليس دعما غير محدود، جاءت على شكل تحرك مثير للجدل قام به الكونغرس الأميركي لتجميد المساعدات العسكرية لأوكرانيا كجزء من الخلاف السياسي الذي نشب حول مفاوضات الموازنة
سيصعب على الرئيس الأميركي جو بايدن وحزبه الديمقراطي تقبل هذه الضربة، وهم الذين يصرون على وجوب حفاظ أميركا على دعمها لأوكرانيا، زاعمين أن أي فشل في القيام بذلك من شأنه أن يقلل بشكل خطير من دور واشنطن القيادي العالمي.
ولم يتوان بايدن عن تكرار دعمه لأوكرانيا بعد وقت قصير من موافقة الكونغرس على صفقة الموازنة، فقال في خطاب ألقاه من البيت الأبيض: "أريد أن أؤكد لحلفائنا، والشعب الأميركي، والشعب في أوكرانيا أنه يمكنكم الاعتماد على دعمنا، وأننا لن نتراجع".
وحث بايدن رئيس مجلس النواب الجمهوري كيفن مكارثي، والذي أدى دورا رئيسا في المفاوضات التي أسفرت عن تجميد المساعدات لكييف، على "وقف التلاعب"، مضيفا أنه "يتوقع تماما" منه أن يضمن تمرير مشروع قانون منفصل لتمويل أوكرانيا في الأسابيع المقبلة.
ومع هذا وذاك، فإن مثل هذا القرار الذي يعكس الانقسامات العميقة المتزايدة في أوساط الجمهوريين بشأن الحفاظ على الدعم لأوكرانيا، سيُنظر إليه في الكرملين كدليل على أن الدعم الغربي يتراجع، وأن بوتين سيكون قادرا بمرور الزمن على النجاح في هدفه المتمثل في ضم مساحات واسعة من الأراضي الأوكرانية. وكما لاحظ الدبلوماسي الأميركي السابق بريت بروين بعد عملية التصويت التي جرت على الموازنة، "ينبغي أن يثير هذا الأمر قلق القادة في كييف، وأعتقد أنهم يحتفلون في موسكو بالعلامات التي تشير إلى أن دعمنا ربما يتراجع".
ولا تظهر الإشارات الواضحة على التعب الذي تُسببه الحرب في صفوف الزعماء الغربيين في واشنطن وحسب؛ ففي بولندا، حيث تحتل القضية الأوكرانية مركز الصدارة في الانتخابات العامة المقبلة في البلاد، إذ قال رئيس الوزراء ماتيوس مورافيتسكي إن بلاده لم تعد ترسل أسلحة إلى أوكرانيا في ظل تصاعد النزاع التجاري بين الدولتين، ويواجه حزبه الشعبوي ضغوطا يتعرض لها من جانب اليمين المتطرف في الانتخابات الوطنية المقبلة.
تسعى أوكرانيا إلى التقليل من آثار تجميد واشنطن للمساعدات، وقالت إنها "تعمل بنشاط مع شركائها الأميركيين" لضمان الحصول على مساعدات جديدة في زمن الحرب
ومن ناحية أخرى، أثار الأداء القوي الذي قدمه رئيس وزراء سلوفاكيا الشعبوي السابق روبرت فيكو في الانتخابات الأخيرة في البلاد، أثار تساؤلات حول استعداد سلوفاكيا لمواصلة دعم أوكرانيا عقب تعهده بإنهاء جميع المساعدات العسكرية لأوكرانيا خلال حملته الانتخابية.
وقد أثيرت مخاوف في المملكة المتحدة حول قدرة الدول الغربية على الحفاظ على المستوى الحالي من الدعم العسكري لكييف، وهي واحدة من أقوى المؤيدين لأوكرانيا منذ بداية الصراع، إذ كشف مصدر عسكري كبير أن إمدادات المعدات الدفاعية التي يمكن أن تقدمها بريطانيا للأوكرانيين قد نفدت.
من المؤكد أن الديناميكيات المتغيرة لدعم الغرب لأوكرانيا كانت سببا في دق ناقوس الخطر في كل من الولايات المتحدة وأوروبا، وهو الأمر الذي دفع زعماء الاتحاد الأوروبي إلى عقد "اجتماع تاريخي" في كييف في وقت سابق من هذا الأسبوع لإظهار تضامنهم مع الشعب الأوكراني.
وشدد جوزيب بوريل، مسؤول الشؤون الخارجية بالاتحاد الأوروبي، على أنه في ظل الصعوبات السياسية القائمة في الكونغرس الأميركي بشأن تمويل أوكرانيا، فإن دعم الاتحاد الأوروبي سيكون في غاية القوة؛ "إننا نواجه تهديدا وجوديا. والأوكرانيون يقاتلون بكل شجاعتهم وإمكاناتهم، وإذا أردنا لهم النجاح، فيجب أن نمنحهم أسلحة أفضل وعلى نحو أسرع".
وأضاف بوريل: "آمل أن لا يكون هذا القرار نهائيا وأن تستمر الولايات المتحدة في دعم أوكرانيا".
وحتى الوقت الحالي، تسعى أوكرانيا إلى التقليل من آثار تجميد واشنطن للمساعدات، وقالت إنها "تعمل بنشاط مع شركائها الأميركيين" لضمان الحصول على مساعدات جديدة في زمن الحرب.
ولكن في ظل استطلاعات الرأي التي تُجرى، ولا سيما في الولايات المتحدة، والتي تشير إلى أن الدعم الشعبي لأوكرانيا آخذ في الانخفاض، فقد تكون هذه لحظة فاصلة في الصراع الأوكراني، وهي اللحظة التي ستؤدي إلى تحقيق روسيا لأهدافها الحربية في نهاية المطاف.