أكدت تقارير إعلامية مؤخرا أن طهران تستعد قريبا لإطلاق سلسلة من الاستثمارات الإيرانية الاستراتيجية في سوريا، بعد وقت قصير من التوقيع عليها في شهر مايو/أيار الماضي. ومن بين تلك الاستثمارات شركة اتصالات الهاتف المحمول الإيرانية، وبنك مشترك، وشركة تأمين. وعلى النقيض من الاتفاقات السابقة، يبدو أن الصفقات الأخيرة تتحول إلى حقائق ملموسة بسرعة ملحوظة.
ويشير هذا إلى تسارع ملحوظ في قدرة إيران على انتزاع تنازلات سيادية من النظام السوري بفضل ضغوطها المتزايدة على دمشق إلى حد كبير. ولكن هناك سببا آخر لتضخم نفوذ طهران وهو المأزق الاقتصادي المتعاظم في سوريا والديناميكيات الجيوسياسية المتغيرة في المنطقة وخارجها. ولعل في سرعة تنفيذ هذه الصفقات ما يؤكد الوتيرة غير المسبوقة التي تعمل بها إيران على إحكام قبضتها على الاقتصاد السوري.
لقد توسعت البصمة الإيرانية في الاقتصاد السوري بشكل لا يمكن إنكاره منذ بدء الانتفاضة عام 2011. وضخت طهران موارد كبيرة لدعم نظام الأسد، بما في ذلك المساعدات المالية والاقتصادية واسعة النطاق وتأمين الميليشيات وتوريد الأسلحة.
وفي مايو/أيار 2023، سُرّبت وثائق سرية قيل إنها من المؤسسة الرئاسية للنظام الإيراني، كاشفة عن المدى الواسع للدعم المالي الإيراني لنظام الأسد. وقد استثمرت إيران، وفق هذه الوثائق، نحو 50 مليار دولار في دعم الأسد طوال الحرب السورية، وهو رقم أعلى بكثير مما كانت مصادر أخرى قدرته فيما بين 20 و30 مليار دولار.
وفي مواجهة القيود المالية التي حالت دون السداد النقدي، حاولت إيران استرداد هذه الديون من خلال اتفاقات التسوية القائمة على المشاريع مع نظام الأسد. ومنذ عام 2017، أبرمت طهران كثيرا من الصفقات مع دمشق، لكن القليل منها تحقق. وشعرت طهران بالاستياء لأن النظام السوري كان يخص روسيا بغالبية الفرص التجارية في البلاد.
وبعد سنوات من التردد في التصعيد، زادت إيران الضغط بشكل كبير على دمشق، خاصة منذ عام 2021، في محاولة لتجيير دعمها الكبير لتحصل لقاءه على فوائد اقتصادية ملموسة. وباستخدام النفوذ الاستراتيجي في المفاوضات، بما في ذلك سيطرتها على شحنات النفط، حصلت إيران فعليا على امتيازات اقتصادية هذا العام. ولعل الظروف الاقتصادية الصعبة التي تعيشها سوريا، والتي تفاقمت بسبب الصراع المستمر فيها وتفاقمت بسبب انشغال روسيا بالأزمة الأوكرانية، هي التي أدت إلى تآكل الموقف التفاوضي للنظام السوري.
المفاوضات التي جرت إبان الزيارة التاريخية التي قام بها الرئيس إبراهيم رئيسي إلى دمشق في شهر مايو/أيار الماضي، آتت أكلها، وجرى التوقيع على مجموعة من الاتفاقات شملت قطاعات مختلفة، بما في ذلك النفط والزراعة والسكك الحديدية ومناطق التجارة الحرة
وذكرت التقارير أن المفاوضات التي جرت إبان الزيارة التاريخية التي قام بها الرئيس إبراهيم رئيسي إلى دمشق في شهر مايو/أيار الماضي، قد آتت أكلها، فجرى التوقيع على مجموعة من الاتفاقات شملت قطاعات مختلفة، بما في ذلك النفط والزراعة والسكك الحديدية ومناطق التجارة الحرة. وعلى عكس الاتفاقات السابقة التي كانت تشتمل عادة على إجراءات مطولة، انتقلت هذه الاتفاقات بسرعة من الورق إلى حيز التنفيذ بعد مفاوضات مكوكية مكثفة.
وتجلى ذلك بخاصة في الإطلاق المرتقب لشركة "وفا تيليكوم"، مشغل اتصالات الهاتف المحمول في إيران. وقد أكدت تقارير إعلامية أن الشركات الإيرانية قامت بتسليم 500 ألف بطاقة "SIM" وأنشأت 60 محطة اتصالات متنقلة في سوريا، مما يدل على التقدم السريع.
من جهة أخرى، تمثل الجهود التي تبذلها إيران لإنشاء بنك تعاوني في سوريا لتبسيط المعاملات عبر الحدود تطورا آخر جديرا بالملاحظة. أما البنك الوطني الإسلامي، الذي من المتوقع أن يقوم بهذا الدور، فقد تم تسجيله رسميا لدى مصرف سوريا المركزي يوم 17 أغسطس/آب، ومن المقرر أن يبدأ عملياته في المستقبل القريب.
واستكمالا لهذه المبادرة، أُنشِئت شركة تأمين تابعة لشركة البورز للتأمين الإيرانية، وهي إحدى أقدم وأكبر شركات التأمين في إيران. ويتمتع هذان المشروعان بمكانة استراتيجية لتعزيز الاستثمارات الإيرانية الخاصة في سوريا من خلال تخفيف المخاطر المرتبطة بالعمل في البلاد، والتي كانت مرتفعة تقليديا. وبالتالي، فإنهم يهدفون إلى تنويع استثمارات إيران خارج نطاق الحكومة الإيرانية وشبكات الحرس الثوري الإيراني.
مارست إيران نفوذها لتشكيل سياسات التجارة والاستيراد السورية، مما أدى إلى تغييرات عميقة نتيجة لتأثير إيران على هذه السياسات، ومن بينها إحياء مصانع تجميع السيارات الإيرانية في سوريا مؤخرا
وفي الوقت نفسه، مارست إيران نفوذها لتشكيل سياسات التجارة والاستيراد السورية، مما أدى إلى تغييرات عميقة نتيجة لتأثير إيران على هذه السياسات، ومن بينها إحياء مصانع تجميع السيارات الإيرانية في سوريا مؤخرا، وهي "SIAMCO"، و"SIVICO"، والتي كانت قد أوقفت عملياتها سابقا بسبب لوائح الاستيراد الصارمة التي فرضتها الحكومة السورية والتي تحظر استيراد قطع غيار السيارات. ومن الإنجازات المهمة الأخرى اتفاقية إلغاء التعريفات التجارية بين إيران وسوريا، وقد جرى الإعلان عنها في يوليو/تموز. ويفتح هذا الاتفاق الرائد الأبواب أمام الشركات، بما في ذلك مصانع تجميع السيارات، للمشاركة في التجارة عبر الحدود دون تكبد تعريفات جمركية.
إن مجموعة المبادرات الاستراتيجية التي تصورتها إيران منذ فترة طويلة في سوريا واسعة النطاق، وتشمل خططا طموحة، مثل بناء مصفاة ثالثة لتكرير النفط، وإنشاء خطوط السكك الحديدية إلى ميناء اللاذقية على البحر الأبيض المتوسط، والسيطرة على الأصول الحيوية مثل الموانئ والمطارات والأراضي الزراعية والحقول النفطية، وأبرزها المربعان 12 و21.
في الماضي، كانت هذه المشاريع تبدو طموحات بعيدة التحقيق، لكن السرعة غير المسبوقة التي حصلت بها إيران على تنازلات سيادية كبيرة من نظام الأسد تجعل إيران الآن أقرب من أي وقت مضى إلى تعزيز نفوذها على الاقتصاد السوري في المستقبل المنظور.