لم يكن أي ممن عملوا على مدى عقود لتأسيس إسرائيل، ونجحوا في ذلك عام 1948، يتصور أن مشروعهم الذي بدأ صغيرا في منطقة رافضة له ومعادية سيصبح إحدى أكثر دولها قوة ونفوذا وتأثيرا؛ فقبل أن تكمل إسرائيل عامها العشرين كانت قد تمددت في أراضي ثلاث دول عربية في حرب 1967. وتحول ميزان القوة الشاملة لمصلحتها منذ ذلك الوقت، بفعل نجاح نخبتها السياسية في تحقيق ما خُطط له، والدعم القوي الذي تلقته من دول غربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة اعتبارا من منتصف ستينات القرن الماضي؛ فضلا عن الأخطاء التي ارتكبتها نظم عربية عدة مجاورة لإسرائيل.
وبقي هذا الوضع مستمرا باستثناء لحظة فريدة تمكنت فيها مصر بدعم عربي كامل من شحذ إمكاناتها التي أُهدر معظمها قبل ذلك، وإعادة بناء جيشها على أسس صحيحة، بعد أن قبلت التحدي، وخاضت- ومعها سوريا- حربا تحقَّق فيها النصر العسكري العربي الوحيد في تاريخ هذا الصراع، بغض النظر عن الخلافات التي ظهرت بعد ذلك، وما زالت حاضرة، بشأن السياسات التي اتُبعت بعد الحرب، وإلى أي مدى نجحت في استثمار نتائجها سياسيا.
وأيا تكن هذه الخلافات، سيبقى نصر أكتوبر/تشرين الأول 1973 مصدر إلهام ليس في مجال المعارك العسكرية فقط، ولكن على صعيد ما يمكن أن يصنعه حُسن التخطيط والتدبير، وأثر التضامن العربي الذي بلغ ذروة غير مسبوقة قبلها أو بعدها، عندما قرر العاهل السعودي الراحل الملك فيصل فرض حظر شامل على شحنات النفط إلى أميركا.
ولا تعود فرادة حرب أكتوبر/تشرين الأول في تاريخ الصراع إلى النصر المصري- السوري فيها فقط، بل إلى التحول الذي فتحت الطريق أمامه من صراع دموي أخذت صفحاته تُطوى واحدة وراء الأخرى، إلى سلام بُدئ في صنعه بعد أربع سنوات فقط من نشوبها، وشُرع في التمهيد له بعد ثلاثة أشهر فحسب من سكوت مدافعها في 28 أكتوبر/تشرين الأول، عندما عُقد اتفاق الفصل بين القوات المصرية والإسرائيلية منتصف يناير/كانون الثاني 1974، ومثله على الجبهة السورية في مايو/أيار. وأعقب هذين الاتفاقين العسكريين ثالث بين مصر وإسرائيل عُقد في أول سبتمبر/أيلول 1975 بعد مفاوضات عسيرة، وبُذرت فيه البذرة الأولى للتحول نحو السلام، إذ نصت مادته الأولى على أن حكومتي الدولتين اتفقتا على (أن النزاع بينهما وفي الشرق الأوسط لا يُحل بالقوة المسلحة بل بالوسائل السلمية)، وأن الطرفين (يعتزمان التوصل لتسوية سلمية نهائية وعادلة عن طريق المفاوضات). كما تعهدت الحكومتان في المادة الثانية (بعدم استخدام أي منهما القوة أو التهديد بها أو الحصار العسكري ضد الأخرى). ولا يخلو من مغزى، في هذا السياق، اعتماد مصطلح النزاع (Dispute) بدلا من الصراع (Conflict) الذي هيمن على القسم الأعظم من الخطاب السياسي العربي منذ 1948.
فرادةُ مزدوجة
ولهذا، فمثلما بدت حرب أكتوبر فريدة في تاريخ الصراع العربي- الإسرائيلي على المستوى العسكري والنتيجة التي أسفرت عنها، كانت تلك الحرب نفسها فريدة أيضا على المستوى السياسي من حيث سرعة التحول بعدها باتجاه البحث عن سلام كان صعبا، ولا زال، رغم التطور الذي حدث باتجاهه بعد 50 عاما.