ما بين الرُوّاد والأحفاد

ما بين الرُوّاد والأحفاد

العديد من الحداثيين الذين عرفناهم عن قريب أو بعيد يعتبرون أن الحداثة بدأت معهم (وإن بمواد مستعارة ومنهوبة)، فعلى كلّ من يريد، أو يقرّر، أو ينوي أن يكتب شعرا "حديثا" من الأحفاد، أو أن يفكّر بكتابة شِعر"حديث"، فعليه أن يقدّم فروض الولاء والطاعة لهؤلاء "الكبار" والروّاد، وألّا يتردد لحظة في التودّد والتزلّف إليهم، والاعتراف المطلق بعبقريّاتهم "الفريدة"، و"برياداتهم" الكاشفة، غير المكشوفة. ويترتّب على هذا الشاعر الطالع المسكين، أن يدبِّج مقالات تُشيد بهؤلاء، وتمدحهم. ومن الأفضل أن تكتب هذه المقالات والدراسات كتابة نقديّة منهجيّة علميّة حديثة، تكون مستمدّة أو مقتبسة أو مأخوذة من عيون المدارس النقديّة الحديثة والجديدة، كالبنيويّة والسيميولوجيّة (ولِمَ لا الأنثروبولوجيّة) ولا بأس بالفرويديّة، وإذا أمكن الاستنجاد بألبرتو إيكو، أو بجينيه، أو بدريدا، أو غولدمان، ومن المستحسن أن تؤخذ هذه المدارس من كافة تفرّعاتها، من البنيويّة الشكليّة، إلى البنيويّة التكوينيّة، إلى السيميولوجيّة المطعّمة بالتحليل - نفسيّة، ومن الأفضل أخذ الأقربين كرولان بارت، لا الأبعدين كسوسور، ولكي تكتمل اللعبة، يُفضّل خلط هذه المدارس الغربيّة بالأسماء الشرقيّة والعربيّة: كابن جني، والجرجاني، فتتأصّل هكذا الشهادة التاريخيّة والعلميّة.

أما إذا كان هذا الشاعر يجيد إحدى اللغات الأجنبية، فالمسألة تصبح مختلفة، فبعد التأصيل المخضرم، والمدمغ والمدموج، تأتي العالميّة، وما على الشاعر الناقد إلا أن يترجم ما تيسّر من شعر هؤلاء "العالميين" (سلفا)، إذا لم يكن ملمّا بوساطة عند من يجيدون، ليقنعهم بالقيام بهذه المهمّة، الخطيرة الجليلة، التي من شأنها تعريف العالم ببعض العبقريات العربية المظلومة والمغبونة. وقد يستحسن أن يكون المترجم العتيد مستشرقا أو مستغربا أو حتى مستعربا، وإن بشروط مخفّفة. فيحدث مثلاَ ألا يكون هذا المستشرق ملمّا بالعربيّة، وعندها يمكن أن تُروى له القصائد بلغته الأصليّة، أو تُترجم على مسامعه (شفويّاّ) أو تُترجم كتابيّا، بما تيسّر أيضا، ثمّ تصدر الترجمة، وعليها توقيع هذا المستشرق، الذي لا يجيد من العربيّة حرفا واحدا. إنّها لضريبة، أمّا إذا تمرّد هذا الشاعر الطري العود، أي إذا لم يدبج تلك المقالات والدراسات، ويصنع من هؤلاء سقوفا من المعدن فوق رأسه، فالويل له! تنزع عنه أولا صفة الشاعريّة... ثمّ يُرمى بالنعوت المختلفة.. أقصد النعوت الحداثيّة المختلفة... ومن ثمّ يُحاصر، ومن ثمّ يُفرد.

 أمّا إذا تمرّد هذا الشاعر الطري العود، أي إذا لم يدبج تلك المقالات والدراسات، ويصنع من هؤلاء سقوفا من المعدن فوق رأسه، فالويل له

 

المهم من كلامنا أنّ الأسماء الكثيرة، والصفات العالية، التي أُلصقت بمعظم هؤلاء الشُّعراء، خصوصا الحداثة والثوريّة والتفجير والتجاوز والريادة، فبركتها آلاتهم وعلاقاتهم، خصوصا الذين كانوا مسؤولين عن مجلات ومنابر شعريّة أو ثقافيّة، إذ حوّلوها إلى وسيلة دعائيّة لهم، بمنطق "شيلني أشيلك". غبار كثيف، إذن، طلع. ولم يقتصر طلوعه وهبوبه على الشعراء الطالعين، أو النقّاد التابعين، وإنّما على مؤسسات حزبيّة وسياسيّة، وأنظمة ومناسبات وتواطؤات، فبعض هؤلاء سخّر كل ما يمكن تسخيره في المؤسسات السائدة لخدمة حداثيّته. ومصادرة موقع أمامي وريادي. ولا بأس، من أجل هذا الترسيخ، وذلك التمكين، من اللجوء إلى جهات أيديولوجيّة بائدة، لتقوية مواقعهم الحداثيّة، التي تتمرّد على "السلطة"، حيثما كانت، وعلى المؤسسات، والمستوعبين، وكذلك على المستوعبين. لأن من شأن السلطة الأيديولوجيّة تدعيم سلطة شعريّة غير أيديولوجيّة.

هذا هو الواقع. معنى ذلك أنّ حداثة" معظم هؤلاء، في حقيقتها، حداثيّة نظريّة هشّة، تشبه كل ظواهر الشعارات السياسيّة والأيديولوجيّة، التي عرفناها واختبرناها جيّدا، وكانت وراء كل هذه الهزائم المتتالية، التى تصيبنا منذ زمان، فشعاريّة الحداثة، كشعاريّات الحريّة والديمقراطيّة والتقدّم والعدالة والتكافؤ... وكلّها شعارات أخفت وراءها كل أشكال التخلّف والارتداد... ولأنّ الكلام المجّاني، الفضفاض، اللمّاع، الهادر، حلّ منذ زمن بعيد محل الواقع، وصار بديلا منه، فمن الطبيعي أن يحلّ الكلام الحداثي التنظيري، محلّ النصوص الحداثيّة، ولأنّ الكلام المجاني الفضفاض، اللمّاع، الهادر، يجذب الناس ويأسرهم بعمقه المزعوم، أو ببلاغيّته الساحرة، فمن الطبيعي أيضا أن يصدّق هؤلاء الناس، بمن فيهم السذّج والأميّون والمتعلّمون والمثقّفون، والشُّعراء، وخصوصا النقّاد، الكلام الحداثي، ويحملونه على محمل الجدّ، ويتوهّمون أنّ ما يقال عن شِعر هؤلاء، يمثّل فعلا واقع شِعرهم. وهكذا انطلت، ولا تزال تنطلي هذه الحيلة الحداثيّة على معظم الكائنات والمخلوقات العربيّة وغير العربيّة. وعلى هذا الأساس، أوجد الكلام الحداثي (وهو كلام في معظمه منقول) شرطا وهميّا بين الشّعراء والأجيال والكتابات، والتراث والهُوية والتاريخ، واختلق ظواهر وهميّة، وشعراء "كبارا" وهميّين، ومعارك شعريّة وهميّة، وكتابات شعريّة وهميّة، وجمهورا شعريّا وهميّا، ونقّاد شِعر وهميّين، ومنابر شعريّة وهميّة، صدّقها البعض فترة، ثمّ عاد فاستدرك، وصدّقها كثيرون "حتى النصر" و"إلى الأبد"، تيمّنا بشعارات الجدران والاحتفالات والهتافات... تيمّنا بالشعارات، لا أكثر ولا أقل.

 

font change