بعد حصول عدد من الدول العربية على الاستقلال عن الاستعمارين الفرنسي والبريطاني في منتصف القرن الماضي، شاعت أفكار في شأن التنمية المستقلة والاكتفاء الذاتي وغيرها من شعارات عن التنمية الاقتصادية المنشودة في تلك البلدان الحديثة الاستقلال.
غني عن البيان أنه لا يمكن عزل تلك الأفكار والمعتقدات عن الحماسة المتأججة ضد المستعمرين والزعم أنهم نهبوا هذه الدول وعطلوا مصالح العباد وكانوا السبب وراء عدم الارتقاء بأوضاعهم المعيشية.
تحدث عدد من زعماء الانقلابات العسكرية ومنظّريهم السياسيين والاقتصاديين بعد عام 1950 عن أهمية إنجاز تنمية صناعية متكاملة للاستغناء عن استيراد السلع والبضائع من الخارج، وركّزوا على الصناعات الثقيلة التي يمكن أن تساهم في بناء صناعات مساندة متوسطة وخفيفة. لم يأخذ أولئك المفكرون بأهمية توافر عناصر أساسية لنجاح تلك الصناعات، من مثل المواد الخام الأساسية والعمالة الماهرة والتمويلات الميسرة ثم الأسواق التي يمكن أن تستوعب مخرجات الصناعات. كان الهدف قيام صناعات تنتج من "الإبرة إلى الصاروخ"، على ما كانت تزعم الأدبيات الناصرية في مصر!
تنمية صناعية في غياب الجدوى الاقتصادية
لا شك في أن من أهداف قيام الصناعات دفع البلاد إلى مراحل اقتصادية متقدمة وتوفير فرص العمل ودعم المجهود الحربي، حيث كانت مصر تهدف إلى تحرير فلسطين وإلحاق الهزيمة بإسرائيل.
أقيمت مصانع للحديد والصلب في حلوان ومجمّع لصناعات الألومنيوم في نجع حمادي ومجمّع للنفط في السويس. إضافة إلى ذلك، جرى توسيع قاعدة الصناعات النسيجية التي كانت مزدهرة قبل يوليو/تموز 1952. لكن هذه الجهود في ميدان الصناعة، التي قادها رئيس وزراء مصر الراحل عزيز صدقي، لم تأخذ في الاعتبار المحددات الاقتصادية والاجتماعية التي قد تجعل الجدوى الاقتصادية أمراً مشكوكاً فيه.
شهدت الصناعة التحويلية متغيرات مهمة خلال القرن العشرين ودفعت الصناعات في دول رأسمالية أساسية مثل الولايات المتحدة وبريطانيا إلى الإعسار والافلاس، وفي أحسن الأحوال إلى التراجع في الأداء.
الجهود في ميدان الصناعة، التي قادها رئيس وزراء مصر الراحل عزيز صدقي، لم تأخذ في الاعتبار المحددات الاقتصادية والاجتماعية التي قد تجعل الجدوى الاقتصادية أمراً مشكوكاً فيه
أصبحت الصناعة تعتمد على معايير الكفاءة والتقدم التكنولوجي والعمالة الماهرة المحدودة التكلفة والقدرة على التسويق محلياً وتطوير إمكانات الولوج إلى أسواق خارجية وتوفير الدعم للصادرات. لذلك تمكنت اليابان وبعدها كوريا الجنوبية ولحقت بها حديثاً الصين، من تعزيز امكانات التصنيع والتصدير.
مع نيل الجزائر استقلالها بعد حرب تحرير وطنية دامت أكثر من سبع سنوات، عقدت القيادة السياسية العزم على تطوير صناعات وطنية في البلاد. وكما هي الحال في دول أخرى في العالم الثالث، لم تستند استراتيجيا التنمية الصناعية على مفاهيم اقتصادية موضوعية. لم يتم الاعتماد على الشراكة مع مؤسسات صناعية متخصصة قائمة في دول متقدمة، ولم تتم الافادة من رؤوس الأموال الأجنبية. اعتمد التنظيم المؤسسي للصناعات على النموذج السوفياتي وهيمنة الدولة وطغيان البيروقراطية، الأمر الذي لم يسمح بقيام صناعات يملكها القطاع الخاص تكون خاضعة لمعايير الجدوى وتحقيق الربحية والقدرة على الاستمرار بموجب معايير السوق.
كانت فلسفة النظام الاقتصادية، منذ حكم الرئيس الراحل أحمد بن بله، أن تكون الصناعات مملوكة بالكامل من الحكومة أو القطاع العام، في حين يسمح للقطاع الخاص بمزاولة نشاط في قطاعي الزراعة والخدمات. في طبيعة الحال، كانت تلك الفلسفة متسقة مع تأميم المصادر الطبيعية ومنها النفط والغاز.
في الجزائر لم تستند استراتيجيا التنمية الصناعية على مفاهيم اقتصادية موضوعية. لم تعتمد الشراكة مع مؤسسات صناعية متخصصة قائمة في دول متقدمة، ولم يستفاد من رؤوس الأموال الأجنبية. اعتمد التنظيم المؤسسي للصناعات على النموذج السوفياتي وهيمنة الدولة وطغيان البيروقراطية
اعتمد العمل الاقتصادي في البلاد على التخطيط المركزي والقرارات ذات النكهة السياسية بصرف النظر عن ملاءمتها للواقع الاقتصادي والتحولات العالمية المؤثرة في اقتصادات البلاد. ظلت تجارب الصناعات ومحددات التنمية تدور في فلك السلطة الحاكمة بعد نهاية حكم بن بله واستلام بومدين السلطة، واستمرت الأمور على هذا المنوال من دون تغيرات تذكر على الرغم من مزاعم التحول الهيكلي ودعوة المستثمرين الأجانب الى توظيف أموالهم في مختلف القطاعات. لكن مساهمة الصناعات التحويلية ظلت تدر نحو 27 في المئة من قيمة الناتج المحلي الإجمالي في عام 2021 بحسب بيانات البنك الدولي، وهي تتخطى مساهمة قطاع النفط والغاز التي كانت في حدود 15 في المئة في عام 2021.
طغيان المعايير السياسية
الاهتمام بقطاع الصناعة في الدول النامية، ومنها مصر والجزائر من الدول العربية، يتوافق مع مناهضة الأنشطة الاقتصادية الأخرى لأسباب غير منطقية. شاع في هذه الدول مفهوم الرأسمالية الطفيلية حيث شمل كل رجال الأعمال العاملين في قطاع الاستيراد أو الخدمات المالية والخدمات السياحية وكل من يعمل خارج قطاعي الزراعة والصناعة.
إذا قبلنا بأن التصنيع يمثل فضيلة اقتصادية لا بد من تقديسها في عملية التنمية الاقتصادية، فإن إدارتها في مصر والجزائر وغيرها من دول عربية ونامية اتسمت بعدم الكفاءة. تسلم المصانعَ والمؤسسات الاقتصادية الأساسية عسكريون لا يفقهون بالأنظمة الإدارية أو إدارة الأعمال، ولا يتقيدون بأنظمة الإنتاج والمحاسبة المالية
لا شك أن هذه التوصيفات لا تمت إلى العلوم الاقتصادية بصلة، حيث أن كل عمل اقتصادي يمثل مساهمة في الناتج المحلي الإجمالي، ولا بد أن يحقق قيمة مضافة مفيدة للحياة الاقتصادية، كما أن تلك الأنشطة توفر فرص العمل لفئات عديدة من المهنيين والحرفيين وتساعد الصناعة والزراعة في مجالات عديدة وتعزز النمو لمختلف القطاعات. ولا يمكن القبول علمياً باعتبار تلك الأنشطة طفيلية إلا إذا اعتمدت المفاهيم الأيديولوجية المتخشبة، وهي تظل سائدة في أوساط عديدة في الدول العربية وتعرقل كل محاولات الإصلاح الاقتصادي.
وإذا قبلنا بأن التصنيع يمثل فضيلة اقتصادية لا بد من تقديسها في عملية التنمية الاقتصادية، فإن إدارتها في مصر والجزائر وغيرها من دول عربية ونامية اتسمت بعدم الكفاءة. تسلم المصانعَ والمؤسسات الاقتصادية الأساسية عسكريون لا يفقهون بالأنظمة الإدارية أو إدارة الأعمال، ولا يتقيدون بأنظمة الإنتاج والمحاسبة المالية. ساهمت تلك الإدارات في تراجع الإنتاج وارتفاع التكاليف وضعف التسويق وتدني المبيعات وتدهور الجودة مما عطل المنافسة في الداخل والخارج. كما أن تلك المصانع والمؤسسات لم تتمكن في ظل إدارتها المترهلة، من توفير ما يؤدي إلى الإكتفاء الذاتي في منتجاتها. لم تفسح الحكومات المجال أمام تطوير أعمال شركات النسيج أو الألمنيوم أو الحديد والصلب بعد تأميمها ومصادرة حقوق المساهمين الأساسيين فيها، وبقي الاعتماد على ما تخصصه الدولة من تمويلات لأعمال هذه المصانع. غني عن البيان أن التطورات التقنية والتحولات الاقتصادية جعلت العديد من الصناعات التحويلية في مصر والجزائر ودول نامية أخرى منشآت متقادمة وغير مهيأة للتعديلات التقنية بما يمكنها من أن تكون ذات فائدة انتاجية. كذلك، أقامت الحكومات العديد من المنشآت الصناعية التي لم تتوفر لها إمكانات النجاح نظراً إلى غياب معايير الجدوى الاقتصادية، حيث اتخذت القرارات في شأنها بموجب معايير سياسية.
عوامل ملائمة للتنمية
هناك أهمية لإحداث مراجعة فكرية واسعة النطاق في مختلف الدول العربية بعدما تكرست مفاهيم الاقتصاد الشمولي وطغيان قيم رأسمالية الدولة. هذه المفاهيم لم تقتصر على الدول العربية التي سيطر عليها العسكر أو الأحزاب الشمولية مثل مصر وسوريا والعراق والجزائر، لكنها شملت أيضا الدول الخليجية بعدما تعزز دور الدولة في الحياة الاقتصادية بسبب أنظمة الرعاية أو الريع نتيجة لمداخيل النفط. اعتماد برامج التخطيط والركون إلى اقتصاديين تعلموا في دول المعسكر الاشتراكي أو تشربوا أفكارا مناهضة لاقتصادات السوق، ساهم في تعطيل أي عملية إصلاح هيكلية تؤدي إلى تعزيز دور القطاع الخاص. يتعين تحديد عناصر التنمية بشكل يبين الإمكانات الاقتصادية المتاحة في الدول ذات الصلة. تبقى التنمية الصناعية ذات أهمية ولكن يجب أن تتوضح بشكل سليم. فالتنمية الصناعية يمكن أن تتعلق بالإنتاج النفطي في الدول المنتجة والمصدرة للنفط والغاز، ومنها الصناعات البتروكيميائية وغيرها. كما أن الصناعات الغذائية يمكن أن تكون ذات أهمية عندما تتمتع الدول بقطاع زراعي منتج ومثمر. يجب أن تستفيد التنمية الصناعية من تجارب دول مثل اليابان وكوريا الجنوبية والصين وتعزز إمكانات جذب الاستثمارات الأجنبية ومشاركة الشركات المتخصصة وذات القدرات المالية والتسويقية. كما يجب أن تكون الصناعة التحويلية مصدراً للدخل في البلاد عندما تتوفر لديها قدرات تصديرية متميزة.
هناك أهمية لمراجعة فكرية واسعة النطاق في مختلف الدول العربية بعدما تكرست مفاهيم الاقتصاد الشمولي وطغيان قيم رأسمالية الدولة. هذه المفاهيم لم تقتصر على الدول التي سيطر عليها العسكر أو الأحزاب الشمولية مثل مصر وسوريا والعراق والجزائر، لكنها شملت أيضا الدول الخليجية بعدما تعزز دور الدولة في الحياة الاقتصادية بسبب أنظمة الرعاية أو الريع نتيجة لمداخيل النفط.
المهم أن تفهم التنمية بشكل سليم ومتسق مع تعزيز النمو وتحسين جودة الحياة والارتقاء بالتعليم ودعم الرعاية الصحية ورفع مستويات المعيشة. إذاً، لا تعتمد التنمية فقط على قيام صناعات ثقيلة أو خفيفة بل هي تعتمد على تحديد القطاعات الحيوية، زراعية أكانت أم سياحية أم مالية أم خدميـــــــة أخرى، التي تمنح منشآتها القدرة على الاستمرار وتحقيق الجدوى الاقتصادية. كما تتطلب عوامل ديموغرافية ملائمة مثل عدد مناسب من السكان ومعدل نمو سكاني معقول لا يتجاوز الواحد في المئة سنوياً ومعدل خصوبة لا يزيد على طفلين لكل امرأة في سن الإنجاب (15 – 50 عاماً) ، وتوفير تعليم متميز مواكب للتطورات التقنية والعلمية المعاصرة. هذا ناهيك عن اعتماد نظام رعاية صحية يتيح للجميع حق الوقاية والعلاج، عندئذ تكون التنمية للقطاع الصناعي متوافقة مع متطلبات التنمية المستدامة.