بعد طريق الهند... ما مستقبل الغاز اللبناني؟https://www.majalla.com/node/301096/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D8%A8%D8%B9%D8%AF-%D8%B7%D8%B1%D9%8A%D9%82-%D8%A7%D9%84%D9%87%D9%86%D8%AF-%D9%85%D8%A7-%D9%85%D8%B3%D8%AA%D9%82%D8%A8%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%BA%D8%A7%D8%B2-%D8%A7%D9%84%D9%84%D8%A8%D9%86%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%9F
أحدث مشروع الممر الاقتصادي الذي تم الإعلان عنه خلال قمة مجموعة العشرين الأخيرة في نيودلهي قطعا مع عالم قديم، لترتسم معه معالم عالم جديد له أسسه ومفاهيمه في السياسة والاقتصاد والعلاقات الدولية.
الانتقال نحو العالم الجديد أملته سلسلة أزمات دولية وإقليمية هي وليدة سياسات القوى العظمى على امتداد القرن العشرين الذي شهد حربين عالميتين وما تلاهما من ترسيمات حدودية على أنقاض صراعات طائفية وعرقية وحرب باردة أقصت أوروبا عن ريادة العالم، وبعدها أحادية أميركية لإدارة العالم إثر تفكك الاتحاد السوفياتي.
عودة روسيا كقوة عسكرية إلى المسرح الدولي بعد انكفاء لثلاثة عقود، والصعود الاقتصادي المتسارع للصين، ومحاولتهما التموضع وترسيم حدود جديدة لنفوذهما، نسف كل إمكانات المساكنة مع الولايات المتحدة. وقد تكون الحرب الروسية الأوكرانية هي المحطة الفاصلة التي أملت على واشنطن ضرورة الانتقال إلى عالم جديد، بعد أن تيقنت واشنطن من أن قيادة العالم وفق قواعد الاشتباك القديمة أضحت متعذرة، وبعد أن أعادت أكثر من دولة صاعدة تقييم جدوى تحالفها مع الولايات المتحدة.
الجزء البري من طريق الهند العابر لشبه الجزيرة العربية، يعبر عن معالم العالم الأميركي الجديد، الذي استثنى المسارات البحرية لطرق التجارة الدولية عبر البحر الأحمر وقناة السويس للوصول إلى الأسواق الأوروبية وآخرها "مبادرة الحزام والطريق" الصينية
يظهر الجزء البري من طريق الهند العابر لشبه الجزيرة العربية كأنه المتغير المعبر عن معالم العالم الأميركي الجديد، الذي استثنى المسارات البحرية التي اعتمدتها طرق التجارة الدولية عبر البحر الأحمر وقناة السويس للوصول إلى الأسواق الأوروبية وآخرها مبادرة الحزام والطريق. إن أهم ما سيقدمة هذا الجزء من الطريق الذي وُصف أنه جسر أخضر ورقمي عابر للقارات والحضارات هو في ضمان استدامة نقل الطاقة إلى أوروبا عبر شبكة الأنابيب التي تسير إلى جانب طريق السكك الحديدية وبعدها عبر المتوسط انطلاقا من مرفأ حيفا.
هذا يعني، وفقا للمعايير الأميركية، إخراج أوروبا من أزمة الطاقة التي تعيشها منذ الحرب الأوكرانية وتحرير قرارها من الضغوط، وبالتالي تجريد روسيا من أحد أهم أوراقها المستخدمة في مواجهة الغرب وتحويل الصراع العسكري المفتوح إلى حرب استنزاف قاتلة تعيد إلى الأذهان حرب الاستنزاف التي عاشها الاتحاد السوفياتي قبل انهياره عام 1991.
يتعزز الخيار الأميركي عبر طرق الهند بالاستقرار الاقتصادي والخدمات التي سيؤمنها الممر البري وبنيته التحتية لدول المنطقة، من خلال تيسير عملية نقل الطاقة المتجددة والهيدروجين النظيف ونقل البيانات، ولكنه سيضع في الوقت عينه إلزامات حيال إدارة واستثمار مصادر النفط والغاز وحتى الطاقة المتجددة من المصدر إلى الأسواق، وشروط الاستفادة منها. وهذا يعني بشكل آخر إدخال الدول المنتجة للنفط المستفيدة من الممر الاقتصادي الجديد ضمن منظومة جديدة تعمل بضوابط أميركية، وإقصاء الدول الواقعة ضمن "منطقة الاهتمام الأميركي" عن دخول سوق الطاقة دون الالتزام بالشروط الأميركية، مما يطرح كثيرا من التساؤلات حيال مستقبل النفط والغاز في شرق المتوسط في الدول الواقعة شمالي الممر الأميركي، وتحديدا في لبنان الذي يعاني من مخاض شاق قادته الولايات المتحدة لتوقيع اتفاق ترسيم حدوده البحرية، وفي سوريا التي يبدو أن استثمار ثرواتها البترولية مؤجل بانتظار اتضاح الصورة الميدانية، قبل الدخول في مسارٍ لن يكون أقل تعقيدا من المسار اللبناني.
مسار الغاز اللبناني... الإلزامات الأميركية
أ. وقّعت الحكومتان اللبنانية والإسرائيلية في 27 أكتوبر/تشرين الأول 2022، اتفاق ترسيم الحدود البحرية بوساطة أميركية، وقد دخل الاتفاق حيز التنفيذ مع إرسال حكومة الولايات المتحدة إشعارا يتضمن تأكيدا على موافقة كلا الطرفين على الأحكام المنصوص عليها في متنه. وكان نص الاتفاق في القسم الرابع منه: "يعتزم الطرفان حل أي خلافات بشأن تفسير هذا الاتفاق وتطبيقه عن طريق المناقشات التي تقوم الولايات المتحدة بتيسيرها".
ب. بتاريخ 16 أغسطس/آب 2023، أعلنت شركة "توتال إنرجيز" عن وصول منصة الحفر "Transocean Barents" إلى البلوك رقم (9) على بعد حوالي 120 كيلومترا من بيروت في المياه اللبنانية. وتقود الشركة الفرنسية جهود التنقيب عن النفط والغاز في البلوك المذكور مع حصة 35 في المئة، بالشراكة مع شركتي "إيني" الإيطالية (35 في المئة)، و"قطر للطاقة" (30 في المئة). وذلك بعد انضمام الأخيرة إلى كونسورتيوم الشركات، كبديل عن شركة "نوفاتيك" الروسية التي انسحبت من التحالف بعد فرض عقوبات أميركية وأوروبية على قطاع الطاقة الروسي.
ج. نص الاتفاق المذكور في القسم الثاني الفقرة (5) منه على: "يدرك الطرفان أن إسرائيل ومشغل البلوك رقم (9) يخوضان بشكل منفصل نقاشات لتحديد نطاق الحقوق الاقتصادية العائدة لإسرائيل من المكمَن المحتمَل. وستحصل إسرائيل على تعويض من مشغل البلوك رقم (9) لقاء الحقوق العائدة لها من أي مخزونات محتمَلة في المكمن المحتمل؛ ولهذه الغاية، ستعقد إسرائيل ومشغل البلوك رقم (9) وإسرائيل اتفاقية مالية قبيل اتخاذ مشغل البلوك رقم (9) قرار الاستثمار النهائي... ولا يكون لبنان مسؤولا عن أي ترتيب بين مشغل البلوك رقم (9) وإسرائيل ولا طرفا فيه"... كما يتفهم الطرفان أنه رهن ببدء تنفيذ الاتفاقية المالية، وسيقوم مشغل البلوك رقم (9) المعتمد من لبنان بتطوير كامل المكمن المحتمل حصريا لصالح لبنان، وذلك تماشيا مع أحكام هذا الاتفاق".
الغاز اللبناني وفرص التصدير
في 29 سبتمبر/أيلول المنصرم كشف وزير الطاقة اللبناني في حكومة تصريف الأعمال، وليد فياض، أنه "خلال 30 يوما قد (نصل) إلى اكتشاف بترولي في الرقعة رقم (9) في المياه الإقليمية اللبنانية"، وذلك خلال افتتاح قمة الطاقات العالمية رفيعة المستوى في لندن بعنوان "مستقبل واعد للكهرباء والغاز"، مسلطا الضوء على فرص الاستثمار في القطاع.
يتعزز الخيار الأميركي عبر طريق الهند بالاستقرار الاقتصادي والخدمات التي سيؤمنها الممر البري، من خلال تيسير عملية نقل الطاقة المتجددة والهيدروجين النظيف ونقل البيانات، لكنه سيضع في الوقت عينه إلزامات حيال إدارة واستثمار مصادر النفط والغاز وحتى الطاقة المتجددة من المصدر إلى الأسواق
فما هي فرص التصدير الحقيقية المتاحة أمام الغاز اللبناني في ضوء المتغيرات التي شهدتها المنطقة وأهمها "مشروع الممر الاقتصادي" وتداعياته لا سيما عبر التكيف مع مسار التطبيع بين الدول العربية وإسرائيل، ومستلزمات المواجهة مع روسيا في أوكرانيا.
خياران من الناحية النظرية يبدوان متاحين أمام تصدير الغاز اللبناني:
الخيار الأول، استخدام خط الغاز العربي، وهو خط يمتد بطول 248 كيلومترا من مدينة العريش في شمال سيناء على البحر المتوسط إلى شاطئ خليج العقبة جنوب طابا وعبر خط بحري إلى ميناء العقبة الأردني بطول 16 كيلومترا وعلى عمق في مياه الخليج يصل إلى 850 مترا. وقد استكمل الخط من العقبة حتى الرحاب الأردنية التي تبعد 24 كيلومترا عن الحدود السورية، بطول 390 كيلومتر. أما الجزء النهائي من الخط فيمتد شمالا من الحدود الأردنية السورية إلى الحدود السورية التركية ثم غربا حتى الدبوسية ومنها يتفرع إلى خطين: خط إلى بانياس السورية وخط إلى طرابلس اللبنانية. وقد اكتملت هذه المرحلة في فبراير/شباط 2008، وبدأ اختبار التشغيل يوم 8 سبتمبر/أيلول 2009، وقد بدأ الإمداد المنتظم في 19 أكتوبر/تشرين الأول 2009 وتم تسليم الغاز إلى محطة دير عمار لتوليد الكهرباء.
تجدر الإشارة إلى أن استخدام هذا الأنبوب كان متقطعا بما يتناسب مع مجموعة من المستجدات، فبعد انخفاض صادرات الغاز المصري بشكل كبير وتوقفها بحلول منتصف عام 2010، واصلت أقسام من خط الأنابيب العمل في الأردن لتسهيل النقل المحلي للغاز. بعد ذلك تم تغيير اتجاه الاستخدام لتدفق الغاز من الأردن إلى مصر اعتبارا من العام 2015 إلى عام 2018 لتتم التغذية بالغاز الطبيعي المسال المستورد من خلال محطة الاستقبال في العقبة.
هذا وقد مكنت عودة مصر إلى الإنتاج من تدفق الغاز إلى الأردن اعتبارا من 2018، وفي عام 2020، بدأ خط الأنابيب أيضا بتزويد الأردن بالغاز الإسرائيلي، بينما تم عكس الجزء المغمور تحت الماء إلى إسرائيل للسماح بتدفق الغاز من إسرائيل إلى مصر.
الخيار الثاني، الانضمام إلى مشروع "شرق المتوسط" (East Med)
يعود هذا المشروع إلى العام 2013، عندما تم التوقيع عليه بين قبرص واليونان وإسرائيل، ويهدف الاتفاق إلى جعل الدول الثلاث حلقة وصل مهمة في سلسلة إمدادات الطاقة لأوروبا، وأيضا لمواجهة محاولات تركيا بسط سيطرتها على موارد الطاقة في شرق المتوسط.
يتيح خط الأنابيب البالغ طوله 1872 كيلومترا نقل ما بين 9 و11 مليار متر مكعب من الغاز سنويا من الاحتياطيات البحرية لحوض شرق المتوسط قبالة قبرص وإسرائيل إلى اليونان وكذلك إلى إيطاليا ودول أخرى في جنوب شرقي أوروبا. وقد أبدت الولايات المتحدة في حينه "تحفظات" بشأنه بسبب التوتر الذي تثيره مسألة السيادة على مكامن احتياطيات الغاز في شرق البحر المتوسط بين تركيا وقبرص.
السؤال المطروح والذي يفرض نفسه: هل ما زالت الولايات المتحدة متمسكة بتحفظاتها على أنبوب شرق المتوسط بعد الاضطراب الدولي الذي أحدثته الحرب في أوكرانيا واحتدام الصراع مع روسيا والصين؟ وهل يشكل القسم البحري من طريق الهند نحو أوروبا النسخة الأميركية لمشروع أنبوب شرق المتوسط مع تبدل الرعاية الأوروبية للمشروع إلى رعاية أميركية؟
مكنت عودة مصر إلى الإنتاج من تدفق الغاز إلى الأردن اعتبارا من 2018، وفي عام 2020، بدأ خط الأنابيب أيضا بتزويد الأردن بالغاز الإسرائيلي، بينما تم عكس الجزء المغمور تحت الماء إلى إسرائيل للسماح بتدفق الغاز من إسرائيل إلى مصر
في هذا الإطار أيضا، كيف يمكن تفسير عزم شركة "أديسون" الإيطالية اتخاذ قرار الاستثمار النهائي بشأن خط أنابيب الغاز "إيست ميد–بوسيدون" المقترح بحلول نهاية العام الجاري 2023، وفق مجلة "بايبلاين تكنولوجي جورنال"؟ وأن المشروع سيكون جاهزا للتشغيل بحلول عام 2027 وفق مصادر الشركة. وتضيف الشركة أن خط الأنابيب ستتم تغذيته من حقول الغاز التي دخلت مرحلة الإنتاج بالفعل وأخرى لا تزال قيد التطوير، علاوة على حقول أخرى لديها احتياطيات إضافية يتعين تطويرها، وتنتج هذه الحقول حوالي 28 مليار متر مكعب سنويا، بحيث يتم تصدير ثلثها تقريبا إلى مصر والأردن.
في الاستنتاج
تظهر بنود الاتفاق بين لبنان وإسرائيل حجم التقييدات الموضوعة أمام حرية العمل اللبنانية للاستمرار في التنقيب واستثمار الثروة الغازية البحرية؛ فبالإضافة إلى تقييدات الاتفاق المالي الملزم بين شركة "توتال" والجانب الإسرائيلي كشرط لمتابعة الشركة المستثمرة قرارها النهائي، بما يجعل استكمال الاستثمار رهنا بهذا الاتفاق، فإن فض الخلافات بين لبنان وإسرائيل بشأن تفسير الاتفاق غير ممكن إلا من خلال محادثات تسيرها الولايات المتحدة.
ومع انتظار أنبوب شرق المتوسط الضوء الأخضر الأميركي ليلاقي القسم البحري لطريق الهند نحو أوروبا، يبدو تصدير الغاز الإسرائيلي المسال عن طريق منشآت الإسالة المصرية هو الخيار الوحيد المتاح أمام تصدير أي كميات منتجة مستقبلا في شرق المتوسط؛ ففي حين يبدو استخدام الأنبوب العربي مستحيلا من قبل لبنان لأسباب عديدة أهمها الصراع المعقد والمتعدد الأوجه في سوريا، تجدر الإشارة إلى أن إسرائيل والأردن شريكان في خط الأنبوب العربي، وهما شريكان للولايات المتحدة في مشروع الممر الاقتصادي الجديد، مما يجعل استخدام لبنان للأنبوب العربي رهنا بتنازلات يقتضي تقديمها وبموافقة إقليمية تديرها الولايات المتحدة.
لقد دفع لبنان أثمانا باهظة لقاء توقيع اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل ليس أقلها التنازل عن 1300 كيلومتر مربع من مياهه الاقتصادية الخالصة، فما هي الأثمان الإضافية التي سيستحق دفعها لقاء الانضمام إلى الدول المصدرة للغاز في شرق المتوسط؟
قد يكون في تصريح المبعوث الأميركي آموس هوكستين خلال زيارته الأخيرة إلى بيروت: "حان الوقت لمراجعة الإطار... الذي سمح بالتوصل إلى نتيجة على صعيد الحدود والعمل كذلك على سلام بري" أكثر من إشارة إلى التنازلات المطلوبة.