رحلة بين طبقات رأس كافكا في براغhttps://www.majalla.com/node/301066/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D8%B1%D8%AD%D9%84%D8%A9-%D8%A8%D9%8A%D9%86-%D8%B7%D8%A8%D9%82%D8%A7%D8%AA-%D8%B1%D8%A3%D8%B3-%D9%83%D8%A7%D9%81%D9%83%D8%A7-%D9%81%D9%8A-%D8%A8%D8%B1%D8%A7%D8%BA
"أين يقع رأس فرانز كافكا؟"، شيء من الفكاهة السوداء يتسلل إلى ذلك السؤال العبثي. رأسه في قبره طبعا. غير أن كافكا ليس إنسانا عاديا لكي يبقى رأسه في قبره. رأسه في الكتب التي ألّفها وتُرجمت من الألمانية إلى لغات العالم كلها. رأسه أيضا في الشخصيات التي اخترعها وفي الأخص غريغوري سامسا في روايته "المسخ"، و"ك" في روايته "المحاكمة" أو "القضية". ولكن سيكون مؤلما له، لكافكا وليس لرأسه، أن يعرف أن مقهى "ستاربكس" هو أكثر المستفيدين من إرثه الروائي. كتب كافكا روايته "أميركا" من غير أن يزورها. كانت به حاجة لهجائها. وها هي أميركا الرأسمالية تضعه على قائمة موادها الاستهلاكية من خلال مقهاها الشهير الذي يواجه رأسه في براغ.
وقفتُ أمام رأس كافكا المؤلّف من طبقات معدنية لامعة، تدور كل واحدة منها على نفسها بين حين وآخر، وبكيتُ، لا من أجل كافكا وحده، بل خُيّل إليَّ أن السوري إبراهيم وطفي، مترجم كافكا إلى العربية، قد حل في جسدي وفاضت دموعه من خلال عيني. تركت مقعدا فارغا لوطفي وجلست بين العشرات في "ستاربكس" في ما كان العشرات يقفون أمام الرأس الذي لم يكفّ عن التفكير، لكن بطريقة بصرية معاصرة.
قررت المدينة التي ولد وعاش وكتب كتبه فيها وإن بلغة المانية أن تصنع منه سببا مضافا لإجتذاب السياح إليها. يشبه رأس كافكا في وظيفته ساحة البلدة القديمة والساعة الفلكية وقلعة براغ وبرجها
"أهذا هو كافكا؟"، السؤال ليس لي ولا يحق لي الإجابة عنه، لأنني كلما قرأتُ واحدة من رواياته لا يتعكّر مزاجي بل تزداد علاقتي بالحياة صعوبة بسبب ما أكتشفه من كدمات لم أكن قد رأيتها من قبل في قلبي، ذلك لأنها كدمات روحية. يا سيدي، خفف عنك المشقّة. كافكا الذي هنا هو واحد من معالم براغ السياحية. لقد قررت المدينة التي ولد وعاش وكتب كتبه فيها وإن بلغة المانية أن تصنع منه سببا مضافا لإجتذاب السياح إليها. يشبه رأس كافكا في وظيفته ساحة البلدة القديمة والساعة الفلكية وقلعة براغ وبرجها. لا شيء آخر.
في ما كنت احتسي قهوتي، رحت أتأمّل الواقفين. كلهم من الشباب. هل قرأوا كافكا وتعرفوا إليه؟ كانت لعبة النحات التشيكي ديفيد سيرنو مزدوجة. فهي معبّرة عن العالم الذي اخترعه كافكا وفككه وطرح أفكاره من خلاله وهي في الوقت نفسه مسلية ذلك لأنها تنطوي على لعبة بصرية تعبّر هي الآخرى عن مستويين من التفكير. مدهشة في سياقها البصري كما أنها تفصح عن طريقة فهم كافكا للعالم، كونه كابوسا يتألف من طبقات متحرّكة. لا مجال للجدال حول معرفة النحات العميقة بكافكا. هل علينا أن نتساءل عن إمكان وصول تلك الفكرة إلى الجمهور العادي؟
لولا برود لما كان كافكا
قد لا ينتبه أحد من العابرين اليوميين إلى صورة كافكا الكبيرة الملصقة على الجدار. قلت لنفسي "ما الذي يفعله كاتب المحاكمة والقصر والمسخ هنا، في مكان ليس بعيدا من وسط المدينة التاريخي؟". أعرف أن براغ هي مدينته التي يحقّ لها أن تفخر به دعائيا ولكن صورته تلك كانت توحي بوقوع شيء ما. حدث لا يزال يقيم في الماضي ولم يتحرّك إلى الأمام. بعد خطوتين عرفت أن ذلك المكان هو المقهى الذي كان يلتقي فيه أصدقاؤه وفي مقدّمهم ماكس برود، ناشر أعماله في ما بعد الذي لم ينفذ وصيته بحرق مخطوطاته. عمليا لو لم يكن هناك برود لما كان هناك كافكا، بمعنى أن برود هو الذي سمح لنا بالتعرف إلى كافكا وعالمه. يبدو المكان مهجورا وموحشا ومقلقا. كان كافكا يقرأ قصصه على جمهرة قليلة من الأصدقاء. ليست هناك سوى الصور، وعليك أن تتخيل صوت كافكا الذي لا بد أنه كان خفيضا ولا يُسمع إلا بصعوبة. هنا تعرّف كافكا إلى ميلينا، صديقته وخطيبته التي كتب إليها رسائل الغرام. كانت ميلينا حاضرة بصورتها هي الأخرى. لكن المكان مكتظ بالكآبة. لماذا يكون علينا أن نحزن حين نتذكر كافكا؟ ربما يكمن السبب في الجملة الأخيرة التي انتهت بها روايته "المحاكمة": "أموت مثل كلب". جملة هي أشبه بالوصية أو هكذا صارت بعدما نشر برود أعمال كافكا الروائية. لم يكن العالم كافكويا قبل ذلك، صار كذلك بعدما حل غريغوري سامسا في أحلامنا وصرنا نخشى أن نتحول في الصباح التالي إلى حشرة لا تقوى على الخروج من جسدها أو صورتها.
مثلما كان هناك لغز كافكا في الرواية العالمية، فإن كافكا هو في حد ذاته كان لغزا. عاش غربة لغوية. فمن أجل أن يكون تشيكيا كان يجب أن يُترجم أدبه إلى التشيكية. وفي ذلك يكمن جزء من شقائه
تمكن كافكا منا بل تمكن من العالم كله. الرجل الذي غادر الحياة في الأربعين من عمره بسبب اصابته بالسل، سيجبر الكثيرين على اقتفاء خطواته ما بين مولده عام 1883 ووفاته عام 1924 رغبة في التعرف إلى أسرار حياته التي يُعتقد أنها كانت مصدر إلهامه في كتابة رواياته التي ساهمت في خلق عالم روائي جديد. فمثلما طرح كافكا مضامين جديدة، اقترح أشكالا جديدة للكتابة. حين وقفتُ أمام صورته شعرتُ بأنني أعرفه. سبق لي أن التقيته، بقبعته ومعطفه وربطة عنقه. ذلك كافكا الذي عرفته، ولكن كيف صدقت أنني قد عرفته فيما كتب لي ابراهيم وطفي قبل أكثر من عشر سنوات مؤكدا أنه لا يزال يسعى للتعرف إليه؟
في أيام قليلة قضيتها في براغ، لم أكن أودّ سوى التفكير في علاقة المدينة بابنها. فعلت براغ، وهي مدينة صغيرة مكتظة بالسياح، ما تراه مناسبا لها سياحيا. أحبّت ابنها. ذلك صحيح. والصحيح أيضا أنها وضعته على أجندتها السياحية. ابحث في أي دليل سياحي عن براغ، فستجد أن رأس كافكا يحتل موقعا مميزا بين المواقع التي يجب أن يذهب إليها السائح في المدينة. لكني لم أر نسخا من كتبه في شارع الكتب. أما عاد التشيكيون يقرأون كتبه؟ وهل كان كافكا مقروءا بلغته الألمانية في المدينة التي عاش فيها وهي تتكلم لغة اخرى؟ مثلما كان هناك لغز كافكا في الرواية العالمية، فإن كافكا هو في حد ذاته كان لغزا. عاش غربة لغوية. فمن أجل أن يكون تشيكيا كان يجب أن يُترجم أدبه إلى التشيكية. وفي ذلك يكمن جزء من شقائه.