هناك خيبة عربية من تعاطي دمشق مع مكافأة التطبيع العربي في الأشهر الماضية، ودمشق تقول إن لديها خيبتها لأنها لم تحصل على مكافآت على "التنازلات الكبيرة" التي قدمتها.
منذ إعادتها السريعة إلى الجامعة العربية في مايو/أيار الماضي، كان هناك رهان عربي على أن تسير دمشق خطوات صغيرة، مثل: تبادل معلومات، وتشكيل لجان أمنية للتعاون في محاربة تجارة المخدرات ووقف تهريبها عبر حدود الأردن وإلى الخليج، وتسهيل عودة عدد محدود من اللاجئين من الأردن ولبنان، وعقد اللجنة الدستورية في مكان توافق عليه دمشق، وتسهيل إيصال المساعدات الإنسانية.
خلال الأشهر الأخيرة، إما أنه لم يحصل أي تقدم في هذه الخطوات أو حصل تقدم جزئي جدا، مثل تشكيل لجنة أمنية سورية- أردنية لمحاربة الإرهاب، وتسلم وزير الخارجية السوري فيصل المقداد ورقة عمل من نظيره الأردني أيمن الصفدي، وتسلم ممثلي دمشق وثيقة المبعوث الاممي غير بيدرسن، تضمنت عناصر "خطوة مقابل خطوة" مع اشتراط بألا تكون ملزمة.
لكن ما "فوجئ" به وزراء عرب بمن فيهم أولئك المتحمسون للتقارب، أن شحنات المخدرات زادت وغارات المسيرات تصاعدت بعد التطبيع. هذا عمليا، أما خطابيا، فحجم الصدمة العربية يعود الى "طريقة تعاطي المقداد في الاجتماعات الوزارية العربية، وتصرفه وكأن شيئا لم يحصل، وكأن سوريا في العام 2010 وما قبل"، حسب قول أحد المعنيين.
غير أن المفاجأة الأخرى، جاءت في موضوع مكان انعقاد اللجنة الدستورية. هنا، لا بأس من بعض التفصيل: بحث الدستور وتشكيل لجنة لبحث الدستور السوري، بين المقترحات الروسية، التي التقطها المبعوث الأممي السابق ستيفان دي ميستورا، مدخلا لتنفيذ القرار الدولي 2254، وورثها لخلفه غير بيدرسون. تشكلت الوفود التي تمثل الحكومة والمعارضة والمجتمع المدني، وعقدت جلسات في مقر الأمم المتحدة في جنيف بتسهيل من فريق المبعوث الأممي، بطريقة أقرب إلى العصف الفكري والنقاش الثقافي على أن تكون تفاوضا سياسيا بين الحكومة والمعارضة.
المسار البسيط والصغير الذي استعملته أطراف عدة ورقةَ توتٍ لقول إن هناك عملية سياسية برعاية أممية لحل الأزمة السورية، تعرض لعطب شديد جراء الحرب الأوكرانية
هذا المسار البسيط والصغير الذي استعملته أطراف عدة ورقةَ توتٍ لقول إن هناك عملية سياسية برعاية أممية لحل الأزمة السورية، تعرض لعطب شديد جراء الحرب الأوكرانية. باختصار، موسكو قالت إنها ترفض عقد الاجتماعات في جنيف لأن سويسرا لم تعد محايدة في الحرب، وفرضت عقوبات على روسيا.
صار الهم هو البحث عن مكان يستضيف هذا "النقاش السوري". بعد التطبيع العربي. عرضت القاهرة الاستضافة. دمشق أبلغت موسكو ثم أبلغت القاهرة شفويا وخطيا، أنها غير موافقة لأنها وعدت مسقط بالاستضافة. المعارضة السورية رفضت مسقط واقترحت الكويت. تقدم وسطاء باقتراح وسط، بعقدها بالتناوب بين مسقط والكويت.
اللجنة الوزارية العربية التي تشكلت بموجب قرار الجامعة إعادة دمشق، قررت في اجتماعها بالقاهرة منتصف أغسطس/آب توثيق موافقة دمشق، وتضمن البيان الختامي رغبة في عقد اللجنة الدستورية في سلطنة عمان قبل نهاية العام.
هذا العنصر، يفترض أنه تفصيل بسيط وعادي. توثيق ما أبلغته دمشق للعرب خطيا. واقع الحال ليس هكذا. تفصيل التفصيل ليس تفصيلا في دمشق. عندما سئل الجانب السوري عن عقد اجتماع اللجنة الدستورية في مسقط، نصح بضرورة التنسيق مع مسقط. وعندما سئلت مسقط، قالت إنها غير مستعدة لذلك. وحاليا، تبحث اللجنة الدستورية عن مكان جديد. تفصيل من التفاصيل السورية الكثيرة.
أما تفصيل مصير الورقة الأردنية، فلا يقل مأساوية عن "الدستورية"، ذلك أن الجانب السوري الذي تسلمها "فقط للاطلاع" لم يجد الوقت إلى الآن لقراءتها... والاطلاع عليها. ولاشك ان مصير الورقة التي قدمها المبعوث الاممي لمقاربة "خطوة مقابل خطوة"، لن يكون أحسن حالا.
رغم الخيبة والخيبة المضادة، والغرق والإغراق في التفاصيل، كل المؤشرات تدل على أن مسار التطبيع مستمر وسيستمر. في الأصل هو بدأ لأسباب غير سورية وسيستمر لأسباب غير سورية
سوريا الغارقة مدمنة إغراق المحاورين في التفاصيل، نهج سوري أصيل. الرغبة "في اغراقهم (المحاورين) بالتفاصيل"، أعلنها صراحة أكثر من مسؤول سوري. دمشق لديها أسبابها، فهي تقول إنها قدمت الكثير من التنازلات للعرب، بينها تشكيل اللجان الأمنية الثنائية لمحاربة المخدرات، وإبلاغ الأمم المتحدة بفتح معابر لإيصال المساعدات الإنسانية عبر الحدود التركية إلى مناطق المعارضة بعد فشل أميركا وروسيا في التوافق على تمديد القرار الدولي الخاص بالمساعدات، لكنها لم تحصل على مقابل ولم يخفف العرب العقوبات الغربية ولم يقدموا مساعدات اقتصادية، بل إن أميركا رفضت في أغسطس/آب تمديد استثناءات العقوبات، ويتجه الكونغرس الأميركي لتشديد العقوبات.
ورغم الخيبة والخيبة المضادة، والغرق والإغراق في التفاصيل، كل المؤشرات تدل على أن مسار التطبيع مستمر وسيستمر بمطباته وتحدياته وزياراته ومصافحاته. هناك من يراهن على تنفيذ خريطة الطريق العربية او تعديلها.
في الأصل هذا المسار، بدأ لأسباب غير سورية وسيستمر لأسباب غير سورية. مبرراته إما تخص أجندات وطنية لدول عربية وإما تفاهمات مع قوى إقليمية ودولية واما تعود للرهان على تغيير بطيء في سلوك دمشق.
وأمام المخاض الدولي ومسارات التطبيع الإقليمي، فإن الحاجة لإبقاء قطار التطبيع على السكة، أكثر من قبل.