على أغنية "الله يبارك" للمطرب المصري تامر حسني، كان العريسان ريفان خباز (28 عاما)، وحنين طالب (18 عاما)، يرقصان والمعازيم من حولهم، عندما بدأت تقع فوق رؤوسهم شواظ من نار، بعد أن أشعلت الألعاب النارية شريط الزينة من الورد الاصطناعي الممتد لسبعة أمتار في سقف القاعة، وهو ما أدى إلى اشتعال أغطية الطاولات قبل أن تمتد النار في أرجاء قاعة الهيثم بقضاء الحمدانية في محافظة نينوى شمالي العراق، حيث كان يقام حفل الزفاف.
أحد أقرباء العريس، فرنسيس يوحنا، والذي كان حاضرا في المكان، قال لـ"المجلة"، إن عدد الحاضرين في القاعة كان يتجاوز الستمئة شخص، عندما تحول سقفها إلى كتلة من نار، بعد إطلاق الألعاب النارية داخلها من قبل العاملين فيها.
وبحسب يوحنا، فإن قاعة العرس كانت مملوءة بزينة من البلاستيك والقماش، وهي مواد سريعة الاشتعال، وهو ما أدى إلى انتشار النيران بسرعة، فعمت الفوضى المكان، ولاسيما أنه لا توجد أبواب للطوارئ في القاعة، وإنما باب واحد كبير جزء منه مغلق بينما الجزء الآخر ضيق جدا ما أعاق خروج المعازيم وأدى إلى تدافع كبير بين الحاضرين.
بحسب وزارة الصحة، راح ضحية هذه الفاجعة 104 قتلى، بينهم 41 جثة لم يتم التعرف إليها إلا بعد إجراء فحوصات الحمض النووي (DNA) بسبب تفحمها، بينما أصيب 150 شخصا؛ ووفق أهالي الضحايا، فإن معظم المصابين توفوا لاحقا بسبب عدم توفر أدوية الحروق في مستشفيات نينوى، مما اضطرهم إلى نقل المصابين إلى مستشفيات أربيل
أضاف يوحنا، باكيا، أن التدافع وإغماء بعض الأشخاص بسبب كثرة الدخان، زادا من عدد الضحايا، مشيرا إلى أن سقف القاعة وقع على رؤوس الناس، في وقت لا توجد في المكان أي منظومة للحريق ذاتية التشغيل أو حتى مطافئ.
واستغرب يوحنا، كيف أن الحريق بدأ في جزء من سقف القاعة، ثم انتشر خلال ثوان إلى السقف كله، قبل أن تنطفئ الكهرباء، و"علمنا لاحقا أن صاحب القاعة هو من أطفأها". وأكد أن أول سيارة إطفاء تابعة للدفاع المدني وصلت إلى المكان بعد عشرين دقيقة، لكن الضحايا كانوا قد تفحموا، و"هذا قصور كبير من جانب الدفاع المدني، خصوصا أنه موجود داخل الحمدانية وليس خارجها". وقال يوحنا: "دخلنا القاعة لنفرح، إلا أننا خرجنا بحزن كبير على فقدان الأحبة من الأهل والأصدقاء، فكل واحد من الحاضرين فقد شخصا من عائلته أو أكثر".
41 جثة متفحمة
وبحسب وزارة الصحة، راح ضحية هذه الفاجعة 104 ضحايا، بينهم 41 جثة لم يتم التعرف إليها إلا بعد إجراء فحوصات الحمض النووي (DNA) بسبب تفحمها، بينما أصيب 150 شخصا؛ ووفق أهالي الضحايا، فإن معظم المصابين توفوا لاحقا بسبب عدم توفر أدوية الحروق في مستشفيات نينوى، ما اضطرهم إلى نقل المصابين إلى مستشفيات أربيل.
إضاءة شموع لضحايا حريق الحمدانية في اربيل في 30 سبتمبر
ولم تكن هذه الفاجعة هي الأولى التي تصيب العراقيين بسبب الإهمال والفساد، إذ شهدت السنوات الأخيرة حرائق كبيرة، أبرزها حريق مستشفى اليرموك في العام 2016، والذي أدى إلى وفاة 13 طفلا كانوا في قسم الأطفال، كما اندلع، في العام 2021، حريقان في مستشفيي ابن الخطيب في بغداد، والحسين في ذي قار، راح ضحيتهما 174 مريضا وعاملا، وأصيب أكثر من 200 شخص؛ هذا وأصبحت الحرائق في المخازن التجارية شائعة جدا في العراق، وبعضها يستمر لثلاثة أيام أو أكثر.
وعلى الرغم من كثرة الحرائق إلا أن إجراءات الدولة الرادعة ضعيفة، إذ لم يُحاسب أي مسؤول حتى الآن، بينما يجري تمييع قضايا الحرائق من خلال تشكيل لجان لا تدين أي شخص وتمنع إحالة نتائج تقصياتها، إن وجدت، إلى القضاء العراقي للبت فيها.
قاعات "النفوذ"
تسكن سهل نينوى، أقليات عراقية، من المسيحيين والإيزيديين والشبك وغيرهم، وتسيطر عليه الميليشيات الشيعية والمسيحية، و"حزب العمال الكردستاني"، وهذه كلها ازداد نفوذها في المنطقة بعد انهيار المؤسسة الأمنية الرسمية في العام 2014 في أعقاب اجتياح تنظيم "داعش" محافظة نينوى والمحافظات المحيطة بها؛ وتطرح هذه الفاجعة أسئلة جديدة/ قديمة عن ازدياد هجرة مسيحيي نينوى، والذين ما فتئوا يتناقصون منذ العام 2003.
وكانت قاعات الأعراس انتشرت في عموم العراق بعد العام 2017، نتيجة تحسن الأوضاع الأمنية نسبيا، وظهور قوى اقتصادية جديدة ينتمي معظمها إلى الميليشيات. وقد أنشئت هذه القاعات، فضلا عن المقاهي، من دون أدنى معايير السلامة. كذلك فإن ضمور القوى الإسلاموية المحافظة اجتماعيا، أفسح المجال أمام إقامة حفلات الأعراس في العلن، بعد أن كان ذلك ممنوعا أو متعذرا خلال فترة صعود هذه القوى والحرب الطائفية واجتياح داعش مدن العراق.
ويتحدث خالد ياس، أحد سكان مدينة الحمدانية إلى "المجلة"، عن ظروف إنشاء قاعة الهيثم، فيروي أن القاعة شيدت على أرض زراعية تملكها الدولة، وتحت خط لنقل الكهرباء يسمى "الجهد العالي"، وتصل طاقته إلى "400KV"، علما أن الدولة تمنع إنشاء أي مشروع زراعي أو سكني تحته، ولكن صاحب القاعة استحصل على رخصة بنائها من وزارة الكهرباء، والبلدية، ومديرية الدفاع المدني، بسبب نفوذه القوي. أضاف: "كنا نتوقع حصول فاجعة في هذه القاعة عندما ينقطع خط الجهد العالي، ولكنها حصلت جراء الألعاب النارية"، مؤكدا أن الدولة تتحمل المسؤولية الرئيسة عن هذه الفاجعة، لأنها سمحت بإنشاء هذه القاعة خلافا للقوانين وإجراءات السلامة العامة.
ويُذكر أن القوى الأمنية اعتقلت 14 شخصا في القضية، بينهم مالك القاعة، وستوجه إلى هؤلاء تهمة القتل العمد، بحسب قانون العقوبات العراقي.
فواجع مقبلة
وكانت مديرية الدفاع المدني أحصت وجود سبعة آلاف مشروع، بين قاعات مناسبات وفنادق وأسواق تجارية، لا تحتوي على أي من إجراءات للسلامة، وهي منتشرة في كل مناطق العراق، ما عدا إقليم كردستان.
وقال المتحدث باسم المديرية جودت عبدالرحمن، لـ"المجلة"، إن "ازدياد الحرائق يعود إلى رفض أصحاب القاعات والأبنية تركيب منظومات الحرائق ذات الإنذار المبكر والمطافئ، وخلو التصاميم الأساسية للأبنية من مخارج الطوارئ والسلالم".
وألقى عبدالرحمن، مسؤولية حريق الحمدانية، على مالك القاعة، لمخالفته تعليمات مديرية الدفاع المدني، وعدم توفيره متطلبات الوقاية والسلامة، واستخدامه الألعاب النارية داخل مكان مغلق، وهذا فضلا عن بناء القاعة بمواد ممنوعة تسمى "sandwich panel"، سريعة الاشتعال.
وأوضح أن إجراءات مديرية الدفاع المدني، تتمثل في الكشف عن الأماكن المخالفة لإجراءات السلامة وتغريم أصحابها، بينما تعود صلاحية إغلاقها إلى رئيس الحكومة المحلية ووزير الداخلية. وكشف عن وقوع 91 ألف حريق في العراق، باستثناء إقليم كردستان، خلال السنوات الثلاث الماضية، إذ اندلع 32 ألف حريق في 2022، و31 ألفا في 2021، و28 ألفا في 2020.
امرأتان قرب نعوش لضحايا الحريق في الحمدانية في 29 سبتمبر
ورأى أن هذه الأرقام تعتبر طبيعية جدا بالمقارنة مع دول الجوار ونسبة السكان والنشاط الاقتصادي في العراق، خصوصا أن 47 في المئة من الحرائق هي نتيجة ماس كهربائي. وبين أن معظم أصحاب قاعات الأفراح والمقاهي، وغيرها من الأبنية المخالفة، يلتفون على الإجراءات الضرورية، من خلال التحايل على القانون والحصول على شهادات مزيفة.
قضاء على من؟
إلى ذلك يطالب أهالي الضحايا، بإنزال أقصى العقوبات بحق محافظ نينوى، ومديري البلدية والكهرباء والدفاع المدني، ومالك القاعة، ولكنهم لا يثقون في إجراءات الدولة لعدم قدرتها على محاسبة أتباع الميليشيات والأحزاب، ويذكرون كيف أطلق سراح نور زهير الذي سرق 2.5 مليار دولار من مصرف الرافدين خلال أيام، والأمر نفسه ينطبق على قاتل الخبير الأمني هشام الهاشمي.
قاعات الأعراس انتشرت في عموم العراق بعد العام 2017، نتيجة تحسن الأوضاع الأمنية نسبيا، وظهور قوى اقتصادية جديدة ينتمي معظمها إلى الميليشيات؛ وقد أنشئت هذه القاعات، فضلا عن المقاهي، من دون أدنى معايير للسلامة
وقال القانوني وضاح محمد لـ"المجلة"، إن "الجهة المسببة للحريق واضحة جدا، وعلى المتضررين أن يرفعوا دعاوى قضائية ضد الحكومة المحلية، والدوائر الاتحادية مثل مديرية الدفاع المدني، والبلدية، لتقصيرها الواضح في القيام بواجباتها، وضد مالك القاعة"، مشيرا إلى أن "هذه الجريمة تصنف حاليا في خانة القتل العمد، أما إذا كانت متعمدة فتندرج في خانة الإرهاب".
وأكد أن حريق الحمدانية لن يكون الأخير من نوعه في العراق، إذا إن الأبنية المخالفة للسلامة العامة منتشرة وبازدياد، وهو ما يعني وقوع ضحايا جدد.
وفي المحصلة يمكن القول إن ذاكرة العراقيين أصبحت قصيرة مثل ذاكرة السمك، فلا يكادون ينسون مصيبة حتى يستفيقون على أخرى، والمصائب لا تفارقهم، بينما المسؤوليات ضائعة بين ميليشيات توسع نفوذها على حساب الدولة، ودولة أنهكتها الحروب وسطوة الميليشيات.
