لا نكاد نعرف عن الرواية الأفريقية السمراء إلا عناوين ضئيلة لأسماء ذاع صيتها عالميّا في حقبة وجيزة، معدودة بأصابع اليدين على الأكثر. في المقدمة نلفي النيجيريين تشينوا أتشيبي صاحب رواية "الأشياء تتداعى" ووول سوينكا صاحب رواية "المفسرون"، الحاصل على جائزة نوبل للآداب سنة 1986، والصومالي نور الدين فرح صاحب رواية "خرائط"، والكيني نغوجي واثيونغو صاحب رواية "حبّة قمح"، والسنغالي عثمان سامبين الشهير سينمائيا صاحب رواية "عامل الميناء الأسود". في حين تكتنز ذخيرة الرواية الأفريقية السمراء الهائل من الظواهر الجمالية والأساليب النوعية والأسماء المؤسسة والرائدة والمجدّدة لكن تظلّ طيّ المجهول والمنسي، والسبب لا يمكن إرجاؤه إلى ضعف ترجمة هذا المتن الروائي الفاتن، خاصة المكتوب منه باللغات المحلية المتشعّبة، ولا إلى الشفوية التي طغت على إبداعيته لقرون، بل على نحو موضوعي إلى عدم التفاتنا إليه بالنظر إلى علاقتنا المنتفية بعراقة هذا الأدب الحكائي العتيد، والأمر بمجمله يتحكّم فيه ما هو استعماري وسياسي وجغرافي وتاريخي وعرقي... إلخ.
أضحت روايات أفريقيا السمراء تتقدّم العناوين الثقافية بالعقود الأخيرة، مع أصوات جديدة ظفرت بجوائز عالمية مرموقة، خاصة ما شكلته طفرة الثمانينات والتسعينيات من القرن الماضي، ثمّ هذا التألّق المطّرد مع الألفية الثالثة الذي بلغ توهّجه مع سنة 2021 من استثناء على مستوى التتويج في أوروبا وأميركا وغيرهما من جهة، ومن جهة ثانية بسبب الأجيال المهاجرة الصاعدة في الغرب عموما، دون نسيان أجيال القارة السمراء نفسها التي تعيش في بلدانها الأصلية رغما عن سطوة الحروب المفتعلة من لدن القوى الاستعمارية بتواطؤ مع الأنظمة المحلية الفاسدة، وهي أجيال تحرّرت من القيود الماضوية، ممتشقة نظرة إنسانية جديدة ما بعد كولونيالية إلى الذات والعالم.
الروايات الأكثر شهرة وجدت في لغات الاستعمار أبدع ما يمكن أن تصرّف به منجزها الجمالي دون أن تفرّط في هويتها الوطنية وقضاياها الأساسية ووجدانها وموروثها الحضاري
إن تشبّثتْ مُعظم الأعمال الروائية المحلية بلغاتها الأصليّة كالسواحليّة والتونغا والفولاني والشونا والسولو والزولو والنيلو والبانتو... وهذا ما انفردت به أسماء روائية مثل الكيني نغوجي واثيونغو الذي كتب بلغة الكيكويو، والنيجيري دانييل فاجونو الذي كتب بلغة اليوروبا صاحب رواية "القنّاص الشجاع وغابة الألف إله" والجنوب أفريقي توماس موكوبو موفولو الذي كتب بلغة قبيلة السوتو صاحب رواية "شاكا"... فإنّ بقية الروايات الأكثر شهرة وجدت في لغات الاستعمار أبدع ما يمكن أن تصرّف به منجزها الجمالي دون أن تفرّط في هويتها الوطنية وقضاياها الأساسية ووجدانها وموروثها الحضاري، خاصة وقد تمّتْ أفْرقةُ هذه اللغات بما يتماهى مع الذات والهوية، وفي مقدّمتها الإنكليزية والفرنسية والبرتغالية.
تأرجحت الرواية الأفريقية المؤسِّسة ما بعد الفترة الشفاهية بين الصدام مع النزوع الإمبريالي الذي يستهدف إعدام الثورات التحرّرية من أجل تأبيد الاستعمار بآليات جديدة، وبذا نزعت إلى استعادة المكان والتاريخ ومجمل موروث أفريقيا الأسطوري والمادي العتيدين، وبين فضح فساد ما بعد الاستقلال واستغوار القضايا الاجتماعية في مسعى طموح ينتصر للإنسان والعدالة وهي بذلك متعدّدة الاهتمامات والأساليب يتداخل فيها الوجودي بالنفسي والاجتماعي فضلا عمّا هو فلسفي وهذا ما تمثله كلّ من أعمال تشينوا آتشيبي ووول سوينكا وبيتر أبراهامز وغابرييل أوكارا... إلخ.
يمكن التمثيل للأصوات الجديدة في الرواية الأفريقية بعيّنة من الأسماء التي اجترحتْ لها مكانة مُفردة في فن السّرد المقروء عالميا بالإنكليزيّة وغيرها من اللغات المشار إليها أعلاه، على سبيل الإشارة المكثفة لا الحصر، بدءا بالروائية النيجيرية تشيماماندا نغوزي أديتشي صاحبة رواية "نصف شمس صفراء" التي تمعن في تشريح نكبة الحرب الأهلية في نيجيريا المعروفة بحرب بيافرا، قاب قوسين أو أدنى من أن تقسم البلاد شطرين، وإن بدا المعلن في الرواية سياسيّا فإن مشارط تشيماماندا تفاجئنا بفتح الجرح على ما هو إنساني وفنّي.
كذلك مواطنها الروائي بن أوكري صاحب رواية "الطريق الجائع" الفائزة بجائزة بوكر عام 1991 ذات المنحى الفانتازي، التي يتقصّى فيها سيرة الطفل الروحاني أزارو في مدينة أفريقية متخيّلة، تتعقبه أرواح عالم آخر مستهدفة إقناعه بترك حياته الدنيوية الآثمة، بغية الالتحاق بعالمهم المثالي... إنّه يتمثّل مفارقة تأرجح أفريقيا الدّامغ بين عالم روحي وعالم ماديّ.
وضمن المنحى الفانتازي لكن التاريخي يطفو اسم الكاتبة الإثيوبية مازا منجيستي صاحبة رواية "ملك الظلّ"، وترصد تداعيات الحرب الإيطالية الإثيوبية الثانية 1935 على نحو عام، ومن ناحية خاصة ترصد حكاية امرأة إثيوبية تتحول من خادمة بسيطة إلى محاربة ملحمية.
وكذا مواطنها الروائي دينو منغستو صاحب رواية "أبناء الثورة" ذات السخرية اللاذعة السوداء، التي ترسم حيوات ثلاثة مهاجرين من أفريقيا (إثيوبي وكونغولي وكيني) في واشنطن العاصمة، مُشخِّصة مضاعفات الهجرة بين عالمين مفارقين، حيث فداحة اللامكان، ومُثيرةقضايا عدم الاندماج والعنصرية، ثمّ مُحاوِلة سدّ الثغرة الهائلة بين الأجيال.
عوالم الرواية الأفريقية الجديدة، حافلة بالأسماء والأصوات والأساليب والموضوعات ضمن صوْغٍ سرديّ متحوّل، ميسمُه الإبدالاتُ وديدنهُ الإمعانُ في المآلات
ومن السنغال يلمع اسمان روائيان، الأول هو بوبكر بوريس ديوب الفائز بجائزة نيوستاد عن روايته "مورامبي، كتاب العظام" التي وصفتها الروائيّة الأميركية توني موريسون بالمعجزة، وهي توثّق لمجزرة مقتل مليون رواندي في أبريل/ نيسان سنة 1994 من خلال شخصية مدرّس التاريخ كورنيليوس يوفيمانا العائد إلى بلده رواندا من جيبوتي بهدف الوقوف على ملابسات موت عائلته وكتابة مسرحية عمّا حدث بالفعل من رعب ومأساة.
والثاني هو محمد مبوغار سار صاحب رواية "الذاكرة الأكثر سرية للرجال" الفائزة بجائزة غونكور 2021، وهي مؤسَّسة على اللعب السردي المزدوج، مستلهمة السيرة الحقيقية للكاتب المالي يامبو أولوغيم (1940-2017) الحائز على جائزة رونودو 1968. وتتقصّى الرواية سيرة الكاتب ديجان لاتير الذي يعيش في باريس، وهو نفسه مهتمّ حدّ الهوس باستكشاف كتاب "متاهة اللاإنساني" المنشور عام 1938، متحريّا حقيقة مؤلِّفه "إليمان" الملقب بـ"رامبو الزنجي" الذي اختفى إثر فضيحة مدويّة إذ اتُّهِم بالسرقة الأدبية عقب فوزه بجائزة فرنسية مرموقة ملتزما الصمت إلى الأبد.
ومن الكونغو يبزغ اسم الروائي آلان مابانكو صاحب رواية "مذكرات شيهم" الفائزة بجائزة رينودو 2006، التي تستمزج العجائبي بالكوميدي، مستعيرة عالم الحيوان كيْما تحاكم عالم البشر الموبوء، فهي جارية على لسان شيهم يسرد مغامراته لشجرة "باوباب" طاعنة في الحياة.
ومن زيمبابوي تفاجئنا الروائية تسي تسي دانغاريمبا برواية "حالات عصيبة" الفائزة بجائزة كتاب الكومنولث التي نوّهت بها دوريس ليسينغ بالقول: "هذه هي الرواية التي انتظرناها جميعا، سوف تصبح كلاسيكية". وتسرد أطوار سيرة الطفلة تامبو عبر حقبتي الاستعمار ومقاومته، ثم الاستقلال وتبعات الفساد وسطوة الديكتاتورية، مع التركيز على وضعية المرأة والاستغلال الجنسي.
لا يتّسع الحيّز للوقوف على أسماء من بلدان أخرى ذات حضور بديع ولافت مثل فيستون موانزا موجيلا من الكونغو صاحبة رواية "ترام 83"، والجنوب أفريقية يواندي أوموتوسو صاحبة رواية "المرأة المجاورة"، والأوغندية جينيفر نانسوبوجا ماكومبي صاحبة رواية "كينتو"، والجيبوتي عبد الرحمن أ-وابيري صاحب رواية "حصاد الجماجم"، والكيني بيتر كيماني صاحب رواية "رقصة الجاكاراندا"، والغانيّة شارون دودوا أوتو صاحبة رواية "غرفة آدا"... إلخ.
هي محض نماذج روائيّة على سبيل المثال لا الحصر، يمكن عدّها كوة صغيرة للنظر إلى عوالم الرواية الأفريقية الجديدة، الحافلة بالأسماء والأصوات والأساليب والموضوعات ضمن صوْغٍ سرديّ متحوّل، ميسمُه الإبدالاتُ وديدنهُ الإمعانُ في المآلات.