خالد خليفة... روائي الفجيعة السوريةhttps://www.majalla.com/node/300981/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D8%AE%D8%A7%D9%84%D8%AF-%D8%AE%D9%84%D9%8A%D9%81%D8%A9-%D8%B1%D9%88%D8%A7%D8%A6%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%AC%D9%8A%D8%B9%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A9
بدأت تجربة خالد خليفة بالوحدة، هذا الميراث الذي يتحدّث عنه لمحاولته الأولى في صُنع وحدته وفي أن يتعلّم كيف يكون الكاتب والروائي وحيدا. لم تكن إجازة الحقوق التي حصل عليها، لتملك أي معنى له، كان أسيرا لشيء آخر، لأن يقول شيئا عن الولادة والأخوة والرفاق وأبناء البلد. أخوته رسموا طريقا له دون أن يوصله إليه، السياسة، ثم الأدب. قادته المكتبة إلى أن يقرأ كثيرا، وحيث تكون العزلة انهماكا وهمّا وانشغالا.
لم ينزع ترحال خالد خليفة الطويل بين المدن السورية، سيرة البدايات ولا النضج الأول، كانت القصص القصيرة هي الملجأ الأول له، بعد أن جلس طويلا مع الروايات الروسية، ثم مع عبد الرحمن منيف، وأغلب ما يعيد قراءته كل فترة، مع صديق عزلته دوستيوفسكي. في بداية أي سيرة يرويها عن نفسه، وهو يحزم يديه تحت إبطيه، يتحدّث عن السجن الرحيم الأول، الذي ألقاه على عاتق جسده وروحه من أجل الكتابة. قد تبدو سيرته سيرة راهب مُخلص أحيانا، أو سيرة تجربة في التحقق والنجاح. في دمشق واللاذقية، كان يدفع ثمن إيجار أي مقهى يختاره الشبان ليبدأ دورة سيناريو طويل، ودورات أخرى لكتابة الرواية. وذلك بعد أن بدأ يحقق حضورا آخذا في الاتساع، لاسيما مع "مديح الكراهية" (2006) الرواية الأولى التي كان فيها الصوت النسائي عاليا، وفيها تفكيك الشخصيات، التي تقلق وترتعد وتُعنف تحت نير الاستبداد. كان عليه أن يلقن جيلا طويلا من السوريين صدمة، حتى النظام السوري ذاته قد ارتبك أمامها، "مديح الكراهية" كانت العمل الأول تقريبا في بدايات القرن الحادي والعشرين، والتي لا تستخدم التضليل والمكر لإيصال فكرة مفادها أننا نحيا في مجتمع عنيف وخائف وقلق، وأننا ضحايا استبداد مخيف، وهذا بلغة بسيطة، سرديّتها من المعاش السوري والمخيلة المرعبة.
"مديح الكراهية" كانت العمل الأول تقريبا في بدايات القرن الحادي والعشرين، والتي لا تستخدم التضليل والمكر لإيصال فكرة مفادها أننا نحيا في مجتمع عنيف وخائف وقلق
رواية المدينة
لم تكن الجولة الأولى له في الرواية منصفة لقدرته لا في التذكّر ولا في السرد. شهرة الرواية أفقدته شيئا من رهبنة العمل المنفرد، وأثقلَت عليه وزادت أسباب ما يهرب منه، ألا يختار كثرتَه التي يُحبها، ونجاح الرواية حمّله هما: متى تكون الرواية الثانية؟
من القصة القصيرة إلى الرواية، الرواية بحدّ ذاتها حملت سيرة أخرى لدى قُرّائه ولديه هو بالذات، وحملت له بُعدا للمواجهة مع السلطة السياسية. بداية القرن العشرين حملت له خيارا أيضا، موقفه في الرواية أصبح موقفا سياسيا، وكان لسياسيي سوريا الكبار أن يملكوا روايتهم. في تلك المرحلة بدأ يزداد ظهور روايات المدن والمجتمع السوري. لكن خالد خليفة كان مواجها والأكثر مركزية، ومحققا لسيرة حداثة مروية بقسوة، منغمسة بالفقير والقاتل والطائفي والملعون والميت، ولم يملك سوى رغبة قاسية لنا وله في أن يقول: نحن لسنا على ما يُرام. انخرط خليفة في السياسة دون وجل، كلمة الرواية المنفردة لم تكفِه، كان متمرّسا في كتابة المقال، وإن حمل صفة أدبية أكثر من كونه سياسيا مخضرما، كانت السياسة واجبا أخلاقيا، فالتمرّس في القراءة السياسية منذ النشأة، جعله لا ينفكّ عن السياسة. ومع ذلك، لم تكن الروايات المتتالية ملتزمة سياسيا ولا أخلاقيا بالمعنى التقليدي للكلمة، فأسلوبه في بناء الشخصيات والحبكة يبتعد عن الدلالة الأخلاقية المباشرة، لكنه واقعي بالمعنى الأوّلي والمباشر للكلمة. إلهامُه مجتمَعه الذي لم يخرج منه، وذاكرته التي أبقت على ألفةٍ شعوريةٍ قادَته لتحليل المجتمع السوري بحميمية، مهما حملت من قسوة وآلم. لم يكتب خالد خليفة من أجل أن يكون الحدث السياسي محققا لنوع من الجذب، لكنها ألفته، الحطام والدمار اللذان بدآ في سوريا منذ تولي العسكر السلطة وحتى اليوم، خاصة أن الأحداث السورية منذ ثمانينات القرن الماضي حملت عبئا سرديا ثقيلا لأي روائي سوري. كانت تجارب خليفة أكثر ذكاء، فما واجهته الجماعة السورية عموما وُضعَ بين يديه كانطباعٍ روائي أليف، أكثر من كونه سردا تاريخيا. وعلى الرغم من تعدّد شخصياته، إلا أنه أسبغ عليها بعدا انطباعيا فرديا، ظهر هذا في روايته الثانية "لا سكاكين في هذه المدينة"، وفيها يحضر تاريخ حلب النشط، بالمعنى الذي يكون فيه تاريخ المدينة متصلا دون أن يتوقف عن الدمار والتفجّع، وكأن لكل مرحلة في الفصول الخمسة قصة انتهاء وبداية مؤلمة ومأساوية، يختلط فيها المجتمع بالفرد من خلال الفاجعة، دون أن يلطّف غرابة البطش أو القسوة، لكنه يظهر في الرواية كذاكرة أليفة أقرب للجميع مما يتوقعون. وصولا إلى روايته "الموت عمل شاق"، كان خليفة يرسم الفاجعة السورية دون أن تحمل الحربَ فقط بل تحمل معناه، سيرة الجثة، وثقل الفكرة في أن تكون الوصية الآتية من عالم الحياة تملك سردها ومبتغاها في عالم الموتى. الطرقات والجغرافيا والحدود بين المناطق، كلّ منها يزأر بالموت ويحدّد عوالمه.
أثر آخر
كان خالد خليفة مؤثّرا في الساحة السورية من منطلق آخر: كتابة السيناريو، والذي كان يصفه بأنه طريقة مثلى لعيش الكاتب. ما ظلّ حاضرا في هذه التجربة، صدقه في أنه يعمل في السيناريو ليمارس عاطفته، لقد استطاع مهنيا وتقنيا أن يتطوّر مرّة أخرى منفردا ومعزولا ليُتقن فن السيناريو، كان يوضح للجميع بأن هذا نداء الحياة التي يودّها، في أن يكون في حالة مادية جيدة، دون عناء انتظار مردود المقال أو الرواية. وقد كان واضحا جدا في موقفه ورؤيته: الكتاب في أزمة والرواية أيضا، ما يبدو قابلا للحياة الجيدة مهنيا هو السيناريو. ولم تكن تجربته في هذا المجال أقل من تجربة الرواية على مستوى الإبداع والتحقّق، وكان له دوما دهشة البدايات. كان المسلسل اختراقا هائلا لدراما حلبية على حساب هيمنة دمشقية في الدراما السورية، كان التأسيس الأول لفكرة الدراما التي تملك انخراطا ثقافيا مختلفا قائما مع سيرة مدينة بأهوالها وتغيراتها، واندماجا حقيقا بين المجتمع والدراما ضمن مركّب درامي شيق.
في "لا سكاكين في هذه المدينة"، يحضر تاريخ حلب النشط، بالمعنى الذي يكون فيه تاريخ المدينة متصلا دون أن يتوقف عن الدمار والتفجّع، يختلط فيها المجتمع بالفرد من خلال الفاجعة، دون أن يلطّف غرابة البطش أو القسوة
في التراكم الذي أنتجه خليفة، أصبح جماهيريا ومحبوبا ومتابَعا، انعكس هذا في قهره ضمن مرحلة تقليدية يمر بها كل مثقف سوري في العداء مع النظام، بالتالي عزله اجتماعيا، أو طرده من البلاد تحت سلطة أساليب الضغط، لكنه أصبح مكرّسا بين الجمهور الذي يقرأ والذي لا يقرأ، روائيا وكاتب سيناريو ومعلما لم يبخل بأي شيء من الممكن قوله.
إنتاج المعنى
لكن في كل التجارب التي شهدها خليفة خليفة، والتي استمرّت وصولا إلى روايته ودفاتره والمسلسلات الدرامية التي تلاحقت، استطاع أن ينتج معنى عميقا وراسخا للذات السورية، من المرأة إلى المثقف، إلى الفقراء والمقتولين، وإلى سيرة كل بطل أو بطلة تنتهي بالموت. بدا التمزّق الاجتماعي السوري في روايته أكثر ألفة، وهذه الميزة هي ذاتها التي وضعت ضمن لغة شعرية وصورية وملحمية، خالية من أي رمزية. حتى شعريته في الكتابة لم تكن جنسا، بقدر ما آلية للألفة والاقتراب من القارئ بغية سحره. طبيعةُ الإلغاء الذاتي لشخصه في النصوص، ترفع قيمة ما يكتبه، منكسرا كسارد واضح لتنويع وجهات نظر الشخصيات، واستهداف لأكبر قدر ممكن من الخطوط السردية، ومستعيضا عن شخصه الواضح لإظهار آرائه السياسية والأخلاقية جهارا، ما جعل رواياته كلها تندرج ضمن خطوط منكسرة ومتنوعة جدا.
لا يقمع خالد شخصه الخائف والرقيق في أي مقابلة صحافية، حدّته تكمن دوما في مقارعة وحشية الاستبداد، دون أن يخفي هشاشته ورقته. "أخاف من مشاهدة مقاطع فيديو لحلب" "أحب دمشق لأنها ضاجّة جدا"، "الناس أجمل من وراء الزجاج"، "لا أحب الناس الخائفين في الدولة التوليتارية"، في هذا كله يحضر الطابع الإنساني السخي، والجانب الخاص جدا في شخصيته، والذي يطغى على كل ما كتبه أو حتى ما حاول أن يقوله. الروائي الذي جعل سوريا مدنا وشخصيات، دون أن يُسرف في التزام نحوها بشيء، سوى أن يقودها إلى حتفها المتوقّع أو المفترض.
لم يعرف خالد خليفة عملا غير الكتابة، في بداية ورشات السيناريو، التي كان يبدأ فيها تعليم كل من يريد أن يكتب السيناريو أو الرواية كان يقول: "أنا أعرف السجن دون أن أدخله كأصدقائي كلهم الذين انتظرتهم"، لقد سجن نفسه لوقت طويل ليقرأ كل ما استطاع شراءه من روايات، وأسر نفسه ليكتب روايته الأولى.
بعد سن الخمسين، كان شغفه أن يكتب عن العزلة التي لا تشبهه، كان أقل قدرة على اكتشاف العزلة فكتب عنها، ثم أنه كان ماهرا في اصطياد الطقس الجماعي والإنساني. في السيرة التي نعرفها عنه أيضا، أن بيته، ولمرات كثيرة في الشهر، يتحول إلى حفلة استقبال لكل من يريد أن يزوره، الأفواج التي ترتاد بيته، فوجا تلو فوج تقتفي أثره الآن، والرسائل الأخيرة، والدعوات التي لا تنتهي من أجل الفرح. في الدافع السلوكي والذهني والعاطفي كان المنفرد يصنع نفسه في كثيرٍ من الناس، محاولا ببنية عاطفية هائلةِ المعنى صُنع المجتمع الأهلي الذي يُحبه. خالد خليفة الخائف من أن يشاهد حطام مدينته، عبر أي وسيلة مرئية، استعاض عن طفولته وآثار الذاكرة فيه بالبشر، بالوجوه الكثيرة التي تزوره وتعرفه. في كل المدن السورية التي مرّ أو عاش بها ثمة من يستطيع القول بثقة : خالد خليفة صديقي. لم يجعل لإنسان قرأ له عائقا معه، أو حتى عائقا تجاه معرفته. بالكاد يصدق الناس موته المفاجئ، وكأننا نتحدث عن صديق أكثر من كوننا نحلل أثره. تعلم العزلة في الأماكن الأولى التي نشأ منها، وحينما انهارت ذاكرته في المساحة والمكان، مضى نحو الوجوه والمواعيد. ولطالما قدّم الهدايا عبر مقالاته الحاذقة لكل مدينة ومهمل، وصولا للأطباق البسيطة التي باتت في شهوة السوري ومُناه. كل ما يفعله خالد خليفة خلق السيرة، حتى السيرة المعقولة لانتقاله من الوحدة إلى الخوف، منها كانت سيرة سيحكيها الكثيرون، وهم يتذكرون انتظاراتهم له. في الازدواجية الصعبة بين أن تكون إنسانا هائل المعنى والأثر، وكاتبا متنوعا ذكيا وحاذقا، تكمن مأساة أن يتوقف قلم خالد خليفة.
في الازدواجية الصعبة بين أن تكون إنسانا هائل المعنى والأثر، وكاتبا متنوعا ذكيا وحاذقا، تكمن مأساة أن يتوقف قلم خالد خليفة
أعماله
صدرت لخالد خليفة عدة أعمال روائية، ترجم معظمها إلى العديد من اللغات:
لم يُصلِّ عليهم أحد، 2019.
الموت عمل شاقّ، 2016.
لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة (حصلت على جائزة نجيب محفوظ للرواية)، 2013.