في آخر حوار هاتفي جمعني بالصديق والكاتب الراحل خالد خليفة، أخبرني بأنه عائد إلى دمشق، بعد بضعة أشهر قضاها في زيوريخ، بسويسرا. كان عمليا يعدّ الأيام للعودة، وكأن نقصا جوهريا حلّ بروحه بعيدا من دمشق التي عشقها، كما عشق حلب وحمص، وكل مدن سوريا وأريافها. استغربت حماسته هذه للعودة في حين يبحث الجميع عن سبيل إلى الخروج. الحرب التي لم تفض سوى إلى حالة من الخواء التام، واليأس المضاعف، لم تترك مكانا لخالد خليفة وأمثاله، كما معظم المدن العربية، التي لم يبق لأهلها خيار سوى الرحيل. لكنّ خالد لم يستطع أن يتخيّل نفسه خارج أمكنته وأناسه وأهله وأصدقائه. خارج طقوس عيش وكتابة، باتت جزءا من هويته وتعريفه لنفسه وللعالم. زيوريخ، وأوروبا كلها، جميلة، وآمنة، وهو الحاضر فيها كاتبا مكرّسا مكرما، منذ ترجم عدد من رواياته إلى مختلف اللغات الأوروبية، وإلى الإنكليزية بالتوازي معها، لم يكن يرى نفسه كاتبا منفيا، ولا اعتبر الحرب الطاحنة التي عصفت بكلّ شيء جميل يعرفه في سوريا، بوصفها فرصة لتحقيق "شهرة" و"عالمية" لم تكن تساوي عنده سوى ما تتيحه من احتمالات وإمكانات للسهر والسمر مع الأصدقاء ولحكايات تتناسل من تلك "الفرص"، تطبخ على مهل على مائدة الليل الذي لا يريد له أن ينتهي. ليس ذلك الليل الكالح المظلم الكئيب، بل الليل بوصفه عتبة الفرح والألفة والمسرات، ليل ترتفع فيه أبراج الضحك والفرح الأصليّ بالحياة، ذلك الفرح الذي بدا أن الحياة نفسها تقصر عنه، وعن بيانه على أكمل وجه، فكانت ضحكته الهادرة، دليله ودليل كل المحيطين به والذين باتوا جزءا من تلك الضحكة بتلاوينها الكثيرة، وبكلّ ما جرته عليها الأيام من جروح وندوب.
لم تكن تساوي عنده سوى ما تتيحه من احتمالات وإمكانات للسهر والسمر مع الأصدقاء ولحكايات تتناسل وتطبخ على مهل ليملأ بها مائدة الليل الذي لا يريد له أن ينتهي
وخالد خليفة ابن ذاته، بالمشقات التي اختبرها وحده ليكتب سيرة مدن وأفراد وأزمنة كان يعرف أنها آخذة في الزوال. بدا كأنه يؤرّخ، أو يلتقط آخر صور عالم يراه يتلاشى أمام عينيه، ولم تكن الحرب التي عصفت بسوريا، والخيبات التي انتهى إليها الربيع العربي، سوى علامة من علامات هذا التلاشي الكبير. العالم الذي كان يعرفه خالد تداعى أمام عينيه، ومعه رحل العشرات والمئات ممن شكّلوا وعيه وذاكرته وذائقته الإنسانية والأدبية وطبعوا وجدانه، بل وساهموا في صنع شخصيته. بهذا المعنى كان خالد ابن من أحبهم وأحبوه. كان ثمرتهم بقدر ما كانوا بعضا من ثماره. ولهذا السبب ربما، لم يكن خالد مجرد كاتب أو مثقف، بقدر ما كان حالة، بدت طالعة من الروايات والقصص والأفلام واللوحات والأغنيات، وهذه كلها بعض منه، أكثر مما بدت طالعة من الحياة نفسها. لأن الحياة – هذه الحياة – أفقر وأكثر بؤسا من أن تأتي بأناس جميلين شغوفين بالحياة، من أمثال خالد خليفة.
وخالد خليفة، بهذا المعنى، ولهذه الأسباب، هو ابن صورة قديمة، بل قل أصيلة، عن الكتابة، بوصفها صنو الحياة، ولذلك لم يكن يعتبر نفسه كاتبا بالمعنى الكلاسيكي للكلمة، ولا كان يطلب من الكتابة، ما يطلبه معظمنا منها، ولا يبحث عن "مكافأة" أو "جائزة" لقاء ما يكتب، ولعله الوحيد بين الكتاب العرب الذي تجرأ يوما على انتقاد جائزة رفيعة مجازفا بأن يحرم منها، لا لأنه حرم منها سابقا، بل لأنه رأى في الجوائز تمثيلا لعالم لا ينتمي فعليا إليه، عالم تصطنع فيه الشهرة وتفتعل الأسماء، في حين كان ينظر إلى مثله من الكتاب العرب والعالميين، بوصفهم أشقاء في عالم مختلف عن هذا العالم، وإلى الكتابة بوصفها جزءا من رحلة الألم والفرح والحزن والشقاء والانطحان الدائم في الحياة، لا بوصفها صنعة ورتبة واعترافا وبحثا عن النياشين والأمجاد.
بالنسبة إلى كاتب من طينة خالد خليفة، كان التخلي عن المكان، عن مكانه، بمثابة الانتحار أو الموت البطيء، لأنه بذلك يتخلّى عن الكتابة وأسبابها
كتب خالد خليفة، في كلّ ما كتب، عن أهله، وعن أصدقائه، عن مدنه وعن حاناته ومقاهيه وشوارعه، وعن حبيباته ومن أجلهم جميعا. كتب مثلما يعدّ مائدة عامرة بأسباب الفرح والضحك، ولذلك كان مستحيلا أن يجد نفسه خارج سوريا، و"إن كان أحد سيزعل مني فليزعل.. هم يعرفونني"، كما قال. لأنه بالنسبة إلى كاتب من طينة خالد خليفة، كان التخلي عن المكان، عن مكانه، بمثابة الانتحار أو الموت البطيء، لأنه بذلك يتخلّى عن الكتابة وأسبابها.
لكنني أظنّ أن الوجع، ذلك الذي تراكم على مرّ السنوات والآلام التي تفوق الوصف، آلام أهله وأناسه وبلده، وبعد ما لحق بذاكرته من عنف أقرب إلى القتل والاستئصال، أظن أن هذا الوجع قتل في النهاية خالد، بالقدر نفسه الذي قتله فيه الفرح. فأيّ قلب يمكنه أن يحتمل هذا كله. كلّ هذا الحزن والأسى، كلّ هذا الأفق المسدود، كلّ هذه الحيوات المسروقة.. وفي الوقت نفسه كلّ هذه المحبة، والتشبّث بالحياة، والضحك، والصداقة. أجل، الصداقة. تلك التي كانت السبب الأهم الذي ذكره لي بين أسباب شوقه إلى دمشق. اشتقت إلى أصدقائي، قال، على الرغم من قلة الأمكنة التي باتت تجمعنا، وعلى الرغم من قلة الأصدقاء أنفسهم، بعد أن مات من مات، ورحل من رحل.
كان خالد خليفة في حياته، خصوصا الفصول الأخيرة منها، جزءا من ملحمة الألم السورية. وفي موته هو شاهد أخير على موت المدن، ذلك الموت الذي أفرغها من كلّ معناها، من ذاكرتها ومن مستقبلها، ما دامت آخر الضحكات رحلت وتركت مكانها بقعة سوداء بحجم التراجيديا السورية.