لماذا وكيف تصبح مبدعات مثل أمّ كلثوم وفيروز رمزا وطنيّا؟
ما يبعث على هذا السّؤال هو أنّ مبدعات كبيرات في ميادين أخرى يبلغن مراتبَ عالية ويَحْظَيْنَ باحترام وتقدير كبيرَين دون أن يتحوّلن إلى رموز للجماهير. ويشمل هذا فنّانات في التّصوير والنّحت والتمثيل وفي ميادين العلم والشّعر والرواية والأدب بعامّة.
وليست المسألة مقتصرة على سرعة الانتشار وسعة الانتشار وسهولته وتوجُّه الصوت إلى الخوالج والمشاعر الخصوصية بل الصّميمية، في زمن الإعلام الواسع وحضور أجهزة البثّ من إذاعة وتلفزيون. كما أنّها غير مقتصرة على المواقف الوطنيّة والإنسانيّة العالية التي وقفتها المُبدعتان في كلّ مناسبة. لأنّ
بقيّة الفنّانات والفنّانين لم تختلف مواقفهم، وإن كان اهتمام أجهزة الإعلام أكثرَ تركيزا على ما يصدر عن المبدعتين، ولأنّ اجتماع الإبداع الفنّيّ الرفيع والاستثنائيّ مع ذروة المواقف الإنسانيّة مُمَثَّلَة بالمسألة الوطنيّة هو ما يقدّم المثال الأعلى، وهو ما يقوّمه الجمهور أعظمَ تقويم.
مَن حضر إحدى حفلات المُبْدعَتين كان شاهدا على حال الانتشاء الهائل المُتَسامي وحال الاندماج التي تسود الجمهور وتحرّرُه من كوابيس عالمه اليوميّ
ومع أنّ مجموعة أشخاص، كالمُؤلّف والمُلَحّن والعازف أو العازفين يشاركون في إنتاج العمل الفنّيّ، فإنّ صاحب الصّوت أو المُؤَدّي المُباشر هو مَن ينهض بالعمل لأنّ صوته الحميم الحارّ هو الصلة الحيّة الحسّيّة ــ الإبداعيّة بالمستمع، وهوالقطب الذي تدور حوله وتنتظم العمليّة الموسيقية، وعليه يتوقّف النّجاح؛ والمُغنّي هو مَن يتلقّى القدر الأعظم من الإعجاب، يليه المُلَحّن ثمّ العازفون. لأنّ المؤدّي هو الواجهة والمركز الذي يمنح القيمة الفنّيّة وتتقدّم إمكاناته؛ وصوته هو الأكثر تواصُلا مع الجمهور، فهو ما يلامس بل يخترق المشاعر ويجنّح الخيال. بل إنّ جميع ما في الجوقة يجيء تاليا لصوت المغنّي الرئيسيّ. فكيف إذا كان صوت هذا المغنّي على قدر عظيم من التّمَيُّز؟ علما أنّ المُلحّن يخطّط ليُبرز هذا الصّوت إذ يخصّه بأكبر الاهتمام.
لا شكّ أنّ جانبا من المسألة يتعلّق بخصوصية هذا الفنّ الذي هو لغة مزدوجة، بقدر ما هو أدبيّ لغويّ فنّيّ. هو لغة مزدوجة بل ثلاثية تشمل ثلاثة من الفنون الأكثر رقيّا: الصّوت الإنسانيّ والشعر والموسيقى. ويتميّز هذا الفنّ بأنّ ما ينهض بالشعر ويسمو باللحن، وما يحتضنهما ويُداخل بينهما، هو الصوت الإنساني الباهر. إنّه في الدرجة الأولى فعلٌ إنسانيّ (شخصيّ ــ جمعيّ). إنّه جسديّ ــ عاطفيّ ــ إبداعيّ، ذاتيّ راهن ومستمرّ. لكن هذا الإبداع معروف بل شائع. أتكلم هنا على التميّز والإبداع والارتقاء بهذا الإبداع إلى مستوى سحريّ.
منذ بدايات أمّ كلثوم ومنذ بدايات فيروز تلقّى الجمهور الرسالة التي تخاطب الأعماق، واستقبلَ العَطيّة الشّاهقة كما يليق، واحتفل بها. ومَن حضر إحدى حفلات المُبْدعَتين كان شاهدا على حال الانتشاء الهائل المُتَسامي وحال الاندماج التي تسود الجمهور وتحرّرُه من كوابيس عالمه اليوميّ، وإن موَقَّتا، وتُضيء له أفق الجمال الرّحيب، وتُعطي للتواشج وللحضور الإنسانيّ والتّعبير الإنسانيّ معنى عاليا.
ولا ننسى امتيازا آخر دعَم شخصية كلّ من المبدعتين: إنّه نشوء كلّ منهما في عائلة غير طبقية وغير غنية، وأنّ صعود كلّ منهما لا يعود إلى أية امتيازات طبقية اجتماعية، بل هو نتيجة للموهبة العالية النادرة والجهد الشخصيّ الصارم المتواصل تقنيّا معرفيّا وثقافة وتبتُّلا وتكرُّسا لخدمة الموهبة الطبيعية.
ما الدّلالات التي يشير إليها هذا الوصف؟
بالنسبة إليّ يعني أنّه تكوينٌ للإنسان، وأنّ الطّبيعة الإنسانيّة مطبوعةٌ على حبّ الجمال والانسجام والتّكامُل والتّناغُم والإبداع، عمليّا وسلوكيّا وتعبيريّا وعلائقيّا وحضورا.
لم يُتَح لي أن ألتقي الفنّانة المبدعة أم كلثوم. ولكنّني التقيت السيدة فيروز في بيتها، مرّات. واكتشفت أنّ ذلك البهاء الذي يُشعُّ على منصّة الغناء يتجمّع طبيعيّا ويتكاثف في شخصها صوتا وحضورا وتعبيرا
وما يخالف هذا أو يتعارض معه يقع في جهة النّقيض شكلا ومعنى وجوابا.
وإذا مضينا في التجريد بغيةَ تعيين مواقع اللقاء بين الظواهر الجماليّة لرأينا أنّ الانسجام بين المُكَوّنات الصوتيّة، وبالأخصّ التّناغُم والتّناسب بين الموضوع والتعبير واللحن، وغياب الحدّة والقسوة والقَسر، ومُجانَبَة السهولة والاصطناع، يقدّم أساسا مهمّا للجمال. والعلاقة بين الخير والجمال توحّد البُعدَين الأكثر بهاء، روحيّا وجسديّا ــ مادّيّا لدى الإنسان.
بالتّأكيد لا يمكن أن نحصر السرّ في الجانب المعنوي الخلقيّ. السرّ هنا يقيم في التّكامُل والتّناغُم بين الروحيّ السّامي والجسديّ ــ الصوتيّ الباهر واللحن الرّائع. لأنّ روعة الصّوت إضافة إلى روعة اللحن هما ما يلامس المشاعر وينشر السحر.
ولن ننسى، بالمقابل، حساسيّة المستمع وتجاوبَه مع السموّ الانسانيّ الخلقيّ والجمال الشاهق والروعة في الصّوت الذي تطرب له الروح ويجنّح الخيال.
لم يُتَح لي أن ألتقي الفنّانة المبدعة أم كلثوم. ولكنّني التقيت السيدة فيروز في بيتها، مرّات. واكتشفت أنّ ذلك البهاء الذي يُشعُّ على منصّة الغناء يتجمّع طبيعيّا ويتكاثف في شخصها صوتا وحضورا وتعبيرا؛ وأنّ ذلك البهاء ليس جزءا من العرض أو الاحتفال، بل هو إشعاع ذاتيّ روحيّ وحالة حضور طبيعيّة بالغة الحساسية والخَفَر. علما أنّ السيدة فيروز، كما كانت السيدة أم كلثوم، ذات مواقف صلبة وحاسمة حين يتّصل الأمر بالشّؤون المبدئيّة إنسانيّا وطنيّا وفنّيّا جماليّا.
كلٌّ من أمّ كلثوم وفيروز فرضت على نفسها عزلة شبه مكتملة.
كلٌّ منهما منحت ضرورات العمل الفنّيّ ــ ثقافة وتجويدا ــ كلّ وقتها واهتمامها، بحيث يمكن القول إن حياتها كانت تَبتُّلا وتكرُّسا لمقتضيات هذا الفنّ تعَمُّقا وارتقاء وأداء.
ونعرف أنّ كلاّ من المبدعتين قدّمت، عند الضّرورة، الواجبَ الوطنيّ على أيّ شيء أو اعتبار آخر.
إنّه التّكامُل بين الجمال والإبداع والقيَم العليا. ولا شكّ في أنّ ذلك يمثّل الرسالةَ التي تلقّاها وأكبَرَها جمهورُ كلّ منهما.