هكذا اكتملت "ثلاثية اليهود" التي أعادت "دار العين" طباعتها كاملة والاحتفاء بها عام 2021، وكانت فرصة لتناولها نقديا بالدراسة والنقاش، فلقيت إشادة بوصفها إضافة هامة للمشهد الروائي في مصر، وكان أبرز ما ميزها أنها استطاعت الاقتراب من هذا الموضوع الشائك وهو العلاقة بين المسلمين واليهود في مصر في فترة السبعينات حتى التسعينات بأسلوب روائي جريء وهادئ يضع القارئ في تفاصيل الحكاية ويجعله يتعاطف معها دون مزايدات أو شعارات صاخبة. كما تناقش أزمة الاغتراب والهوية المصرية التي مرّ بها بطل الرواية على خلفية الصراع العربي الإسرائيلي واستطاعت أن تصور الأبعاد الإنسانية المختلفة لتجربة بطل الرواية جلال في مصر وفرنسا من خلال التقاط تفاصيل الحياة اليومية والتعبير عنها بشكل متقن. في الوقت نفسه يؤكد كمال رحيم أنه يفرق بين اليهود كمواطنين عاشوا فترة من الزمن في مصر وبين الإسرائيليين الصهاينة، الذين احتلوا الأرض ودمروا البلاد، وهو ما سيدفعه في ما بعد لكتابة رواية خاصة عن بورسعيد ودور أهلها في المقاومة الشعبية عام 1968.
ثلاثية القرية
بعد سنوات من كتابة تلك الثلاثية يعود كمال رحيم لعالم الكتابة الذي يحبه، ويشعر بحاجة ماسة إلى العودة لذكرياته الجميلة في الريف والقرية المصرية التي يبدو أنها ما زالت تعد بالكثير، فكتب روايته "أيام لا تُنسى" التي كانت بمثابة إعادة إحياء وتعريف للوسط الأدبي به عام 2018، وفيها نجد الشاب علي يعود إلى قريته ويتذكّر جده العمدة "هارون" وكيف كانت حياته وسيطرته على عالم القرية هناك في خمسينات القرن الماضي، نشأت علاقة خاصة بين الجد وحفيده داخل تلك الأسرة التي تتمتّع بالسلطة والنفوذ ولكنها تحتوي أيضا على نقاط الضعف والطيبة، لم يقدّم كمال رحيم عالم المهمشين في القرية أول الأمر، بل جاء به من مستوى آخر مختلف، إذ قدّم العمدة الإنسان وما يتسم به من صفاتٍ تجعله قريبا لقلوب الناس سواء من أفراد أسرته أو من أهل القرية، كما عمد إلى وصف تفاصيل القرية المصرية وما كان فيها من ثراء وصفات جعلت الحفيد يتعلّق بها ويستعيدها ليتذكرها بعد مرور السنين.
وجه آخر من وجوده القرية يعرضه كمال رحيم في رواية "قهوة حبشي" التي صدرت في 2019، ونتعرف فيها إلى شخصيتين شديدتي الثراء والاختلاف هما حبشي صاحب القهوة ومساعده ضاحي، وتبدو القهوة ذلك المكان الذي يجمع أهل القرية ويكون مسرحا للكثير من تفاصيل وأحداث الرواية، يظهر فيه عالم البسطاء الذين يمثلهم ضاحي بكل من إيمان واتباع وطاعة لمن يعلونه في الشأن والمكانة، وما يمثله حبشي من قدرة وتسلط وانتهازية، وكيف تتحوّل حياته وتنقلب رأسا على عقب بسبب حادث مفاجئ في عائلته، وهكذا يتناوب على السرد ضاحي وحبشي وبقية أفراد القرية وشخصياتها المرسومة بدقة، ويعرض من خلالها كمال رحيم بذكاء وبساطة ما تتمتّع به القرية المصرية من سحر وثراء.
في "دكاكين تغلق أبوابها" الصادرة 2022 يرسم كمال رحيم بعدا آخر للقرية المصرية من خلال عيني الصبي علي الذي يحكي ملاحظاته على القرية والدكاكين وتعامل أهلها مع أصحابها من البداية، حتى يصل إلى المواقف والأحداث التي تعكر صفو الحياة في القرية البسيطة، حيث يعرض حياة المسلمين والمسيحيين فيها، وكيف كانت علاقة طبيعية وصحيّة، ولكن الأمر يتغير بهم، ومن خلال وصف شخصيات مختلفة في القرية وتحولاتهم، تتغيّر طبيعة العلاقات ويحدث ذلك الشرخ الكبير في العلاقة وكيف يؤثّر ذلك على القرية في تفاصيل بسيطة ودقيقة.
وهكذا استطاع كمال رحيم أن يقدّم في رواياته التي خصّ بها القرية المصرية رؤية بانورامية شاملة عرض فيها مشكلات هذه القرى التي يستشري فيها الفقر، وكيف ينشأ بين أهلها من يستغل ظروفهم الصعبة.
عوالم أخرى
بعيدا من عالمي يهود مصر والقرية كتب كمال رحيم عن القاهرة وفتوّاتها وحاراتها، فأصدر"رواية حارة المليجي" 2014 التي نتعرّف فيها إلى الموظف البسيط الذي يحال للمعاش قناوي وفتوّة الحارة المليجي ما يملكه من سطوة وسيطرة على مقدرات الناس، وبين هذا وذاك ينتقل السرد بخفة وسخرية، فينشئ للقناوي عالما موازيا وفقا لسيناريو آخر يضعه ويصوغه المليجي، في حين نتعرّف في السيناريو أو الحكاية الأصلية إلى حقيقة قناوي واستسلامه وخموله لا سيما بعد إحالته للمعاش، وتتحول الرواية بعد ذلك إلى نوع من التماهي بين شخصية قناوي والمليجي حينما يشعر الأول بحاجته للأخير، ويبدو أنه قادر على التمرّد بعد كل ما مرّ به من مواقف وتجارب وأحداث، وهكذا ترسم الرواية صورة مختلفة عن الحارة المصرية تقارب في وجه منها حارات محفوظ وحرافيشه وفتوّاته.